
حمل الفيلسوف اليوناني ديوجينلانرسي فانوسه في وضح النهار، وسار بين الناس، فكانت نظرات الآخرين مليئة بالسخرية، إلى أن استوقفه بعضهم يسألونه عن السبب، فقال: إني أبحث عن الإنسان. الإنسان القيمة والمادة، الإنسان صانع القيم والمعزز للأخلاق المجتمعية.
وقد كان الأولى بهذا الفيلسوف، أن يحضر اليوم بفانوسه، ليبحث عن الإنسان الغائب في ردهات الأحقاد وأزقة الكراهية، التي غزت عقولنا، بسبب التطرف الفكري والقومي والديني والحزبي والعشائري، وبسبب الخلافات الحزبية والأزمات الأخلاقية التي تحياها أمة كانت يوماً خير أمة.
إن صورة الطفل السوري على أحد الشواطئ ميتاً تعري الأمة، وتكشف المرض الذي أصاب الجسد بأكمله، فالأمة التي تعيش على ماضيها، وقد أتخمت عقول أبنائها بما فعله السابقون فقط، لا تزال تعاني أزمة أخلاقية عميقة سببها ثقافة القمع والإقصاء، والعنف والتطرف تحت رايات متعددة، فنحن، حتى اليوم، لا نعرف البناء مع الآخر، والبحث عن نقاط الالتقاء، والتسامح والحوار والتعايش بسلام، ذلك أن الفرد عربي يؤمن بأن رأيه الصواب الكامل، وما دونه الخطأ الكامل، وكل ذلك وغيره، هو نتاج ثقافة ومناهج تعليمية إقصائية، تمت تغذية العقول بها منذ عقود طويلة، تدس السم في عسل الوعي والمعرفة، كذلك، فإن استثمار التاريخ كان بصورة خاطئة – هذا إن كنا نؤمن بكل روايات التاريخ أصلاً – لذلك، وصلت حال المواطن العربي إلى مهاوي الردى.
وأذكر كيف نجحت أذربيجان، أخيراً، بعد الانفصال عن الاتحاد السوفييتي في تعزيز الحوار والبناء بين أبناء المجتمع، من خلال تعزيز مفاهيم الاندماج داخل المجتمع نفسه، وعدم إقصاء أي طرف على حساب آخر أو تخوينه، حتى إن تلك الدولة صارت تدعو العديد من مفكري ومؤثري بلدان العالم المختلفة إلى المشاركة في مؤتمر حوار الحضارات والثقافات، الذي شاركتُ فيه قبل عدة أعوام، بصحبة العديد من الأصدقاء في برنامج تحالف الحضارات، الذي تشرف عليه الأمم المتحدة.
فهذه الدولة، ذات الأغلبية الشيعية، تمنح الفرصة للسُنة المسلمين، وأصحاب الأديان والمذاهب الأخرى، لممارسة حريتهم، وهو ما يتوجب على الأمة الوصول إليه.
وهذه الدولة رغم حالة الصراع بينها وبين أرمينيا، تحاول عدم الانجرار إلى قاموس الحرب أو إراقة الدماء، بل تسعى بشكل إنساني، ومن خلال المواثيق الدولية، للحصول على كامل حقها من أرمينيا.
وبالقياس مع دول متعددة دخلت حاضنة الحضارة والرقي بعد التحرر من ويلات أو براثن الاستعمار أو الاحتلال، فماليزيا مثال آخر، وغيرها من دول تسعى إلى إثبات الأنسنة، ولو كان على حساب أشياء أخرى متعددة وكثيرة.
إن ما أطلق عليه «ربيع الثورات العربي» كشف أعراض المرض العضال الذي تعانيه الأمة، فالمشكلة لا تكمن في نظام، هنا أو هناك، وإنما في ثقافة نشأت قبل الإسلام، وتمددت في ما بعد، قائمة على إقصاء الآخر، وتقزيم أفراده، وتحقير عملهم وتخوينهم، من خلال تأويل الدين واستثمار وعاظ السلاطين والنخب والأكاديميين، لتعزيز الهيمنة والتسلط. فكان البحث عن الخلاص، من خلال إيجاد حاضنات تؤمن بالحرية، وقد كانت أوروبا هي البوابة لهؤلاء المقموعين والمقهورين في بلادهم.
وبالعودة إلى التاريخ، سنكتشف أن أوروبا نهضت بعد أن تحررت من الكهنوتية، التي كانت تمنح صك الغفران والخلاص.
إن الأمة اليوم بحاجة للتخلص من الكهنوتية الدينية والقومجية العربية غير الصادقة في انتمائها للوطن أو الإنسان في شموليته، بل إن المصلحة والحاجة والثروة عند هؤلاء المنظرين والقادة فوق كل اعتبار، الأمر الذي جعل من النخب أن تصير مجرد أبواق وأقلام ممجوجة، لا إنسانية في حروفها، بل تبعية مفرطة، من أجل صون الرأس وما حوى، والراتب والمال والمنصب.
الطفل، الذي غرق في بحر عارنا، هو مثال لكثيرين يدقون جدران الخذلان، لإيقاظ إنسانيتنا الأكبر من القوميات والأديان، فنحن لسنا آلهة، حتى نحاكم الناس على أفكارهم وأديانهم وانتماءاتهم.
الطفل، ومَن ماتوا في النمسا داخل عربة مكتظة، ومَن غرقوا من قبل، ومَن سيغرقون في ما بعد، هم خطيئة الثقافة التي لا تزال مستمرة تغذي عقول أطفالنا بالكراهية بشكل مباشر وغير مباشر.
قلوبنا تُدمى كل يوم، بسبب الصور التي تفضحنا، فهل سنعيد الشرف للجسد العربي؟!