«القبيلة والقبائلية» لعبد الله الغذامي.. تحليل العمق الثقافي للتعصبات العرقية ونقده

عبدالله الغدامي

كتب عبد الله التميمي:
«يتقبل الإنسان كل ما هو أجنبي وغرائبي، إلا إذا كان إنساناً آخر».. عبدالله الغذامي.
«رغم التطور التكنولوجي الكبير، والقفزة الكبيرة في التعليم في جميع أنحاء العالم، فإن التعصب العرقي لم ينتهِ، بل هو بازدياد، ويتسبب في مزيد من الحروب والقتل والتدمير، فالحداثة والتعليم لم يستطيعا حل مشكلة التعصبات العرقية، بل زادت الإشكالَ إشكالاً» … هكذا يقول د.عبدالله الغذامي، الكاتب والناقد الأدبي السعودي في كتابه «القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة».

فكرة التضامن

في بداية الكتاب، يستعرض الغذامي مجموعة من المقولات عن الفلاسفة والباحثين في الإنسانيات، والذين يرون أن فكرة «التضامن» الإنساني من شرطها وجود «أعداء»، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، حيث إن «العدو الخارجي هو الذي يدفعنا للتضامن»، وهو ما يعيق فكرة الدولة العالمية الموحدة التي تلغي فكرة التضامن، كما يقول أصحاب هذه المدرسة.
بل وحتى أولئك الذين يأتون بأفكار عظمى، لخلق فكرة تساوي البشر، وفكرة الأخوة الإنسانية العالمية أو الأخوة في الله، فإن أصحاب هذه الدعوة نفسها لن يجدوا بُداً من وصف من لا يشاركهم الرؤية بأنه ابن الشيطان، وسيصبح عدواً لهم، بدلاً من أن يكون أخاً في الإنسانية، كما هي الفكرة.
فهذه المدرسة ترى أن العداوة سبب لخلق التضامن الإنساني، فمهما حصل ستميز فئة نفسها عن بقية الفئات، بناءً على المصلحة الذاتية لهذه الفئة، وستكون الفئة الأخرى مضطرة أيضاً للدفاع عن تميزها في المقابل، وهي مدرسة بالطبع لا تقدم الحلول، بقدر ما تستعرض المشكلة وتحللها بعمق.
ولكن المهم في ما تعرضه هذه المدرسة، أن مشكلة العنصرية لا تختص بالقبائل الآسيوية أو الجرمانية أو الأفريقية، بل هي مشكلة عالمية، ولكن بأشكال مختلفة، فهناك من يربط مشكلات العصبية القبائلية بالتخلف والركود ودول العالم الثالث، والدول الآسيوية فقط، رغم أنها مشكلة عالمية عابرة للقارات، وتنامت أكثر في العصور الحالية، ولم تنقذها وعود الحداثة بإزالة الفروق والقضاء على العصبيات.

العولمة كسبب

ويعلل الغذامي مشكلة تنامي العنصرية والعصبيات في العصر الحديث، بأن العولمة والتكنولوجيا أرهبت العالم، وكانت العولمة هي الماء الذي يروي العنصرية، و«صار المرء يتعرف على العالم، لا لكي يتفاعل معه، ولكن لكي يزداد نفوراً منه»، حيث يرى الإنسان الحروب والقتل، ويرى عجز قادة العالم عن وقف المجازر والحروب، ورؤية هذا الكم الهائل من الفساد الخلقي والبيئي جعلهم يلجأون إلى الأصوليات التي تبرر انتهاء العالم، وتجعلهم يفهمون مجريات الأمور بطريقة تهدئ من روعهم.
وهو ما دفع الإنسان، وحتى بعض المثقفين، إلى الرجوع إلى الأصوليات و«الأسطورة»، للاحتماء بها، فرؤية التلفاز باتت تبعث على الشقاء والأسى والحزن، واللجوء للأصوليات و«الأسطورة» يخفف من وطأة هذه الأحزان، ويجعل لها أسباباً ونهاية وحتميات، حتى ولو كانت هذه الأساطير غير منطقية.
وأول ما ضربت العولمة بيتها في الولايات المتحدة، حيث عطلت النقابات العمالية الأميركية، بسبب هجرة المصانع الأميركية للبحث عن الأيدي العاملة الرخيصة في دول العالم الثالث، وهو ما أضر بالحركات النقابية العمالية في الغرب من جانب، وأضر بالعالم الثالث من جانب آخر، فكان استعماراً اقتصادياً يستنفذ الموارد الطبيعية ويستغل البشر.

ما بعد الحداثة

التعصبات العرقية ليست مسألة من مسائل ما قبل التاريخ والحداثة، بل «مثلما نجدها في ثقافة ما قبل التاريخ، فإننا نجدها في ثقافة ما بعد الحداثة»، وليست مرتبطة بالعمل والجهل «بل إن الفلسفة أسست للعنصرية، كما في جمهورية أفلاطون»، وضرب الغذامي مثلاً في فرنسا كمثال على دولة الحداثة التي لم تستطع أن تحقق وعدها بإذابة الفروق بين أفراد المجتمع، كما هي الرسالة الحتمية للحداثة، حيث جاءت فرنسا بقانون «صون العلمانية»، وهو ما يكشف عجز الحداثة عن تحقيق وعدها بإذابة الفروق بين البشر، والتجأ كلٌّ إلى هويته.

العقل العربي

«لو افترضنا أن جرهم رفضت إسماعيل واعتبرته دخيلاً وأجنبياً ولم تزوجه ابنتها لتوقف التاريخ عن النمو وتوقف مشروع صناعة القصة الكبرى، وظلت جرهم قبيلة بدوية عادية الحال وبلا مستقبل مجيد».. بهذه الكلمات استطاع د.الغذامي، المولود والمترعرع في عنيزة في السعودية، أن يحفز العقل العربي على التأمل، بعيداً عن التعصبات.
ويقول أيضاً «لو بقينا في جزيرتنا، لكنا مثل التاميل أو التبت، شعباً محصوراً ومحاصراً، لولا مزية التمازج الكبرى التي بدأت مع إسماعيل، ثم تكاملت وتكللت مع الدين الإسلامي الذي أهم مزية فيه هي عالميته وعدم محليته».
استطاع الغذامي أن يحاكي العقل العربي، وأن ينتقد النسق الثقافي الذي حوّل ما هو ضروري ومعاشي في تاريخ البشر، إلى شيء رمزي ووفق ونسب بطريقة ثقافية عجيبة، فيضرب أمثالاً برجال كافحوا في حالات القحط والفقر، ليصبح أبناؤهم يتفاخرون بهذا الجد المكافح، ويصبحوا هم أبناء (وفق ونسب)، حتى لو كانوا عالة على المجتمع في المستقبل.. وعلى النقيض من جدهم المكافح الذي قاوم القحط والفقر، لأنه اضطر لذلك، في حين أن غيرهم حتى لو كافح كما كافح جدهم وأكثر، فلن يصل إلى هذا النادي الخاص الذي يسمونه (وفق نسب)، رغم أن كل إنسان له نسب، والحسب مجرد أرقام ترتفع وتنخفض لا قيمة أخلاقية مرتبطة بها!
فكما يقول في كتابه إن «الثقافة حولت ما هو معاشي وضروري وقسري إلى معنى ثقافي تمنحه رفعة ومجداً وتؤسس عليه سلطة كلية».

انفتاح الإسلام

واستعرض الغذامي ما ورد في القرآن في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، كآية يستند إليها لعزل الإسلام وتبرئة ساحته من العنصرية الذي شابت تصرفات المنتمين إليه.
وفي هذه الآية إشارات لأربعة عناصر جوهرية يراها الغذامي، وهي: الناس، شعوباً وقبائل، التعارف، الأكرام.
فالآية جاءت لمخاطبة جميع البشر في قوله «الناس»، وتوزيع الناس إلى شعوب وقبائل، إنما الغرض منه «التعارف»، وهو نقيض التناكر، والتعارف هذا سبب لنشوء التكوينات البشرية من «شعوب وقبائل»، فالقبيلة نشأت بسبب اجتماعي مصلحي له أسبابه العملية، والتوسع أدى لتكوين «الشعوب».
ثم تُختم الآية بالعنصر الرابع وهو «المفاضلة» فـ«الأكرم» هو الأفضل بين الناس، حيث إن «الجميع ناس، وبما أنهم من خلق الله، وبما أن نظام معاشهم يقوم على مبدأ التعارف، وليس هنا من مفاضلة، حيث إن هذه كلها شروط حياتية فطرية وكلية، ولكن التفاضل يأتي مع صيغة التفضيل النحوية» في الآية.

مشكلة عالمية

كتاب الغذامي، وإن كان عنوانه في القبيلة والقبائلية، إلا أنه يتحدَّث عن مشكلة التعصبات العرقية في العالم بشكل عام وفي الدول العربية بشكل خاص، هو يأخذنا إلى الولايات المتحدة، حيث المشكلات العنصرية موجودة وكذلك في أوروبا، بل وحتى في أفريقيا، حيث العنصريات الكبيرة بين أبناء البشرة السوداء أنفسهم، مستعرضاً قضية التعصب كمشكلة عالمية عابرة للقارات متشابهة الأعراض، سواء عند العرب أو غيرهم.
وفي عرض ذكي من الغذامي حول التعصبات العرقية وعدم منطقيتها، أورد حالة السود في أفريقيا، مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية، حيث إنهم في الولايات المتحدة تعرضوا للتهميش، بسبب لونهم، بغض النظر عن ديانتهم أو أصولهم وثقافتهم ولغتهم، فأصبحت البشرة السوداء هوية جامعة لجميع السود، بسبب هذا التهميش، وأصبحوا قوة معنوية كبيرة رغم قلة عددهم، مقارنة بكثير من الأقليات في الولايات المتحدة، فأصبحوا متعاونين متآزرين، يفتخر بعضهم ببعض، حتى وإن اختلفت أصولهم الأفريقية، فاللون يجمعهم جميعهم، لأن الأبيض يراهم «سواء» ويظلمهم، بسبب لونهم، كما يؤكد الغذامي أن «الهوية والهويات نتاج للتحديات ومتولدة عن الحاجة للدفاع عن الذات ضد أي عنصر مهدد»، في حين أن السود في أفريقيا لم يشفع لهم اللون في ما بينهم، وجرت حروب التطهير العرقي بين السود أنفسهم لأسباب بعضها حتى ليس دينياً، بل قبائلياً!
وهكذا وفق الغذامي، يبحث الإنسان والناس عن فروق تميزهم، حتى لو كانوا جميعهم من بشرة واحدة ودين واحد ولغة واحدة، فلابد أن تبحث فئة منهم عمَّا يميزها، فيبحث البقية عمَّا يميزهم في المقابل، وقد يكون بسبب تهميش تتعرض له بعض الأقليات في الدولة، فتلجأ إلى الهوية العرقية.
وهذا التعصب الذي يحصل يدفع إلى تعصب مضاد من العرقيات الأخرى، لتخترع قصصها الخاصة، وأساطيرها الخاصة، وذلك لتواجه التهميش الذي تتعرض له من قبل العرقيات الأخرى أو ربما من قبل الدولة، و»ينتهي الأمر، إما بأفضلية الجميع إن صدقنا كل قوم بما يقولونه عن أنفسهم، وإما بدونية الجميع، إذا صدقنا ما يقوله كل قوم عن غيرهم».

القبيلة والقبلية

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.