
أعدت الدراسة للنشر: عزة عثمان
أكدت أستاذ التخطيط الاجتماعي بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت، د.سهام القبندي، أن العنف يُعد من الظواهر السلوكية العالمية، التي لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات الإنسانية، التي ارتبطت بوجود الإنسان وتفاعله مع المكونات البيئية المحيطة به.
وأشارت القبندي في دراسة بحثية أعدَّتها بعنوان «رؤية تفسيرية لظاهرة العنف وآليات مواجهتها»، إلى أن للعنف أسبابا اجتماعية ونفسية، وممكن أن يكون جماعيا، أو فرديا، مؤكدة أن انتشار ظاهرة العنف في معظم البلدان في الوقت الراهن يمثل خطورة كبيرة عليها، إذا لم يُواجه هذا العنف بكافة الإجراءات اللازمة، للقضاء عليه، وتأمين تلك المجتمعات والأجيال من خطورته.. وحول ما سبق كانت الدراسة كالتالي:
في البداية، تطرَّقت القبندي لمفهوم العنف، مبينة أن هناك إطارا اجتماعيا للعنف، حيث يُعد العنف نوعا متطرفا ومنحرفا من السلوك، ينطوي علي الاعتداء، ويستخدمه الشخص بصفة فردية أو جماعية، وهناك أيضا الإطار النفسي للعنف، حيث يربط علماء النفس في تفسيرهم بين مفهوم العنف والعدوان.
وأكدت القبندي أن العنف سلوك غير سوي، نظرا للقوة المستخدمة فيه، التي تنشر المخاوف والأضرار وتترك أثرا مؤلما على الأفراد في النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، التي يصعب علاجها في وقت قصير، ومن ثم، فإنه يدمر أمن الأفراد وأمان المجتمع.
وترى الباحثة أن العنف سلوك غير اجتماعي، وكثيرا ما يتعارض مع قيم المجتمع والقوانين الرسمية العامة فيه، وأنه قد يكون ماديا، أو معنويا، مثل إلحاق الأذى النفسي أو المعنوي بالآخرين.
وأكدت أن العنف يرتبط بالعدوان ارتباطا وثيقا، فالعنف هو الجانب النشط من العدوانية.. ففي حالة العنف، تنفجر العدوانية صريحة مذهلة في شدتها واجتياحها كل الحدود، مضيفة أيضا أن هناك علاقة وثيقة بين الغضب والعنف.
عوامل وأسباب
وتطرَّقت الباحثة إلى العوامل والأسباب المؤدية للعنف، مشيرة إلى أن هناك عوامل ذاتية مسببة له، حيث يوجد العديد من العوامل الذاتية تؤثر في اتجاه الفرد للعنف، منها الأسباب العصبية والكيميائية، التي كشفت نتائج الدراسات التجريبية، أنها تؤثر وتسبب السلوك العنيف، مثل: ارتفاع هرمون التستوسيترون (هرمون الذكورة)، فالحقن بالتسترسيترون يؤدي إلى زيادة السلوك العنيف لدى الحيوانات، وتوجد كذلك نتائج مماثلة لدى الإنسان، فقد توصل الباحثون إلى أن مستويات التستوسيترون التي تفرز طبيعيا أعلى بصورة واضحة لدى السجناء الذين ارتكبوا جرائم عنف من السجناء الآخرين، الذين ارتكبوا جرائم غير عنيفة.. وكذلك، فإن الأشخاص الذين لديهم مستويات أعلى من المتوسط في التستوسيترون يتميَّزون عادة بأنهم صعبو المراس، وأقل مسؤولية اجتماعية وغير مهذبين.
وكذلك أكدت القبندي أن إدمان المُسكرات والمخدرات يؤدي إلى السلوك العنيف، فالضرب المتبادل يحدث في الأماكن التي يتعاطى فيها الخمور، وكذلك يرتبط العنف الأسري بشرب الخمور، فإحصاءات الجرائم تشير إلى أن 75 في المائة من الأفراد الذين تم القبض عليهم في جرائم القتل والاحتجاز والتعذيب وغيرها كانوا تحت تأثير الكحول.
وكذلك من أسبابه الاغتراب، وهو شعور الفرد بالاغتراب داخل مجتمعه، مع ما يصاحب ذلك من مشاعر وأحاسيس نفسية واجتماعية، حيث وُجد في العديد من الدراسات، أن هناك علاقة بين العنف والاغتراب.
وهناك ضعف الشخصية، الناتجة عن أسباب عديدة، مثل: الصدمات النفسية والأزمات، خصوصا إذا لم يتم الدعم النفسي والاجتماعي، للتخفيف من الآثار المترتبة عليها، كما يصدر العنف عن الأفراد الذين يتسمون بضعف في السيطرة على دوافعهم عند تعرضهم للمواقف الصعبة، ما يؤدي إلى سلوك العنف، كنوع من تأكيد الذات بأسلوب خاطئ.
وأشارت القبندي إلى العوامل الاجتماعية المسببة للعنف، مؤكدة أن التنشئة الاجتماعية من أبرز المتغيرات الاجتماعية التي ترتبط بالسلوك العدواني.. فهناك علاقة وثيقة بين أسلوب التنشئة الذي عايشه الطفل في محيط أسرته، واحتمالات أن يكون الطفل عنيفا.
وقد أوضحت نتائج العديد من الدراسات، أن السلوك العدواني يرتبط ارتباطا سلبيا بأسلوب السماحة المرشدة، وارتباطا إيجابيا بأساليب التنشئة الخاطئة، مثل: القسوة، الإهمال، الرفض العاطفي، التفرقة في المعاملة وتمجيد سلوك العنف، من خلال استحسانه، القمع الفكري للأطفال، من خلال التربية القائمة على العيب والحلال والحرام، من دون تقديم تفسير لذلك، التمييز في المعاملة بين الأبناء، هذا بالإضافة إلى الشعور بعدم الاستقرار الأسري، نتيجة كثرة المشاجرات الأسرية والتهديد بالطلاق، أو عدم إشباع الأسرة لحاجات أبنائها المادية، لتدني المستوى الاقتصادي.
ظروف
وبينت الباحثة الظروف المجتمعية المهيأة للعنف، التي تتمثل بالأوضاع السياسية داخل المجتمع، مثل الاضطرابات والغزو والاحتلال، وسيادة مناخ سياسي متوتر داخل المجتمع يغلب عليه عدم وضوح الرؤية للمستقبل يؤدي إلى العنف والعدوان «فالعنف يولد العنف».
ومن الأسباب أيضا التوزيع غير العادل للثروة، حين يوزع عائد التنمية بطريقة غير عادلة بين أبناء المجتمع، حيث تستحوذ فئة محدودة على الجزء الأكبر منها، خصماً من رصيد الأغلبية، فإن روح السخط الاجتماعي تسود على نحو يجعل فئات أو شرائح اجتماعية بعينها أكثر استعدادا لممارسة العنف بأشكال متنوعة، بوصفه أحد السبل المتاحة للتعبير عن موقفها، كما يُعد الفقر من الأسباب المهمة في انتشار سلوك العنف، نتيجة إحساس الطبقة الفقيرة بالظلم الواقع عليها.
وكذلك البطالة وقلة فرص العمل وبيئة السكن، حيث أشارت الباحثة إلى أن المناطق المزدحمة والمكتظة بالسكان تنتشر فيها مظاهر العنف، فالمناطق المهمَّشة المحرومة من أبسط حقوق الإنسان، ونتيجة لشعور ساكنيها بالإحباط، عادة ما يميلون إلى تبني أسلوب العنف، بل ويمجدونه، وقد أثبتت الأبحاث العلمية، أن الأسر التي يعيش أفرادها في مكان سكن مكتظ، يميل أفرادها لتبني سلوك العنف، كوسيلة لحل مشكلاتهم.
نظريات
وبينت القبندي في دراستها، أن هناك عدة نظريات مفسرة للعنف، منها نظرية الصراع في تفسير العنف، والنظرية البيولوجية ونظرية التحليل النفسي والنظرية السلوكية والاتجاه البنائي الوظيفي ونظرية الذعر ونظرية التعلم الاجتماعي، وهي من أكثر النظريات شيوعا في تفسير العنف، وهي تفترض أن الأشخاص يتعلمون العنف بالطريقة نفسها التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى، وأن عملية التعلم هذه تبدأ بالأسرة.. فبعض الآباء يشجعون أبناءهم على التصرف بعنف مع الآخرين في بعض المواقف، ويطالبونهم بألا يكونوا ضحايا العنف.
وكذلك، عندما يذهب الطفل إلى المدرسة، ويشاهد المعلم يميل إلى حل مشاكله مع الطلبة باستخدام العنف، كما أن الطلبة الكبار يستخدمون العنف في حل مشكلاتهم، فيقوم بتقليد هذا السلوك العنيف عندما تواجهه مشكلة.
نظرية التنشئة الاجتماعية
وأشارت الباحثة إلى أنماط العنف ومظاهره، ومنها العنف الجسدي، ويتم فيه استخدام القوة الجسدية بشكل متعمَّد تجاه الآخرين، من أجل إيذائهم وإلحاق أضرار جسدية بهم، وهو أكثر الأشكال انتشارا، وله مراحل، فالإيذاء البدني والجنسي يبدأ من الركل والصفع وشد الشعر والضرب والتحرش الجنسي وسفاح الأقارب وهتك العرض والخطف والفحشاء والدعارة، مروراً بالممارسات الجنسية الشاذة والاغتصاب وقتل الشرف وإحداث العاهات الدائمة والحرق، وانتهاءً بالقتل.
العنف النفسي والعنف اللفظي
وشددت القبندي على أن العنف اللفظي من أخطر أشكال العنف وأكثرها شيوعاً.. وعلى الرغم من وضوح أشكاله، فإن القانون يعترف بالعنف اللفظي ويعاقب عليه، لكن يصعب قياسه وضبطه، وتتمثل أشكاله في الشتم والإحراج واستخدام الألفاظ النابية وعدم الاحترام والتحقير اللفظي.
والعنف بالحرمان، شكل من أشكال العقوبات الشديدة.. ومع أن هذا الفعل لا يحدث أثرا بدنيا، لكن أثره النفسي كبير، كأن يحرم الإنسان من بعض أشيائه وتفضيلاته.
العنف الذاتي
ويوجه الفرد العنف نحو ذاته، بقصد الإيذاء أو جلب الانتباه أو الحصول على مكسب معيَّن، كأن يعرض الإنسان نفسه للإيذاء الجسدي، كاستعمال أداة حادة في الإضرار بجسده أو إتلاف أدوات وأغراض تخصه، وقد يصل حد العنف إلى درجة الانتحار.
وهناك العنف الموجَّه نحو الآخرين، وهو سلوك يقوم به الفرد، مستخدما الإيذاء الجسدي واللفظي تجاه الآخرين.
آليات لمواجهة ظاهرة العنف
تطرَّقت القبندي في دراستها لظاهرة العنف وآليات المواجهة والتصدي له، حيث طرحت مجموعة من الآليات والاستراتيجيات التي يمكن أن تساهم في مواجهة ظاهرة العنف والتخفيف من آثارها السلبية على الأفراد والجماعات والمجتمعات، على حد سواء، كالتالي:
أولا: آلية علاجية، وتتمثل في:
1 – تجريم العنف، وكفالة الحرية، والتكريم للإنسان، وتأمين العلاج النفسي والجسدي والاجتماعي لضحايا العنف.
2 – العمل على ضبط السلوك العنيف، وتحديد عوامله وأسبابه، ثم نقوم بضبطه تدريجيا، حتى نصل إلى مرحلة ضبط السلوك العنيف، وفي الوقت نفسه إعطاء السلوك الإيجابي البديل وتعزيزه.
3 – توظيف أساليب العمل النفسي والاجتماعي، للنظر في متابعة مسببات العنف في المجتمع ومعالجتها أولا فأولا، واستخدام أساليب تعديل السلوك، والبعد عن العقاب.
4 – استخدام الأساليب المعرفية والعقلانية الانفعالية السلوكية في تخفيف العنف، والتي من أهمها: معرفة أثر النتائج المترتبة على السلوك العنيف، اجتماعيا وثقافيا وجنائيا، وغيرها.
5 – تعليم الشباب مهارات حياتية مثل: أسلوب حل المشكلات، المساندة النفسية، طرق ضبط الذات، توجيه الذات، تقييم الذات، تنمية المهارات الاجتماعية في التعامل مع الآخرين، وغيرها, وتغيير المفاهيم والمعتقدات الخاطئة لدى الشباب، في ما يتعلق بمفهوم الرجولة والقوامة وتحمُّل المسؤولية.
ثانيا: آلية وقائية، وتتمثل في:
– نشر ثقافة التسامح ونبذ العنف، ودعم عمليات التنشئة الاجتماعية والتعليم.
– نشر ثقافة حقوق الإنسان، وليكن الشعار «التعلم لحقوق الإنسان»، وليس تعليم حقوق الإنسان.
– زيادة الوعي بخطورة العنف والتحذير منه، وتنمية الجانب القيمي لدى الشباب، وإبراز أهمية المحبة والعطف في التعامل معهم.
– بناء مفاهيم اعتقاديه نفسية واجتماعية، للقضاء على كل أنواع الظلم، وتعميم الثقافة القانونية في المجتمع، التي تجرم العنف، بأنواعه، وتحذر من مخاطره، ووضع قوانين وتشريعات مضادة للعنف تتناسب مع طبيعة مظاهره المستحدثة على المجتمع الكويتي.
– استخدام مهارات التواصل الفعالة بين الشباب، القائمة على الجانب الإنساني، والتي من أهمها حُسن الاستماع والإصغاء وإظهار التعاطف والاهتمام.
– إتاحة مساحة من الوقت لجعل الشباب يمارسون العديد من الأنشطة والهوايات المختلفة لاستثمار طاقاتهم وقدراتهم.
– التوعية بالأضرار الصحية والنفسية والاجتماعية الناجمة عن العنف.
– تعميم الثقافة التربوية المجتمعية التي تبين السلوك الحضاري الصحيح، الذي يبتعد عن العنف وسوء المعاملة وتضمين المناهج الدراسية والتربوية موضوعات حول خطورة العنف والإساءة للناس والتعريض بهم وتبيان آثاره الدنيوية والأخروية.
– تشجيع الباحثين ومراكز البحث العلمي والأمني على تناول القضايا والمشكلات المتعلقة بظاهرة العنف في المجتمعات، وكيفية التعامل معها ومواجهتها، والعمل على نشر وتعميم نتائج هذه الدراسات للعاملين في قطاع الشباب.
وأوضحت الباحثة، أيضا، أن هناك آليات في مجال الإعلام والتوعية الاجتماعية، تتمثل في:
– تشجيع المؤسسات الإعلامية على بث برامج تثقيفية وتوعوية عبر وسائل الإعلام المختلفة، تستهدف نشر ثقافة السلام، وتؤكدها قيمنا الأخلاقية الفاضلة والسمحة، ونبذ أساليب العنف والعدوان واستخدام القوة في التعامل، وتشجيع الانتماء للمجتمع والحفاظ عليه.
– زيادة دافعية الشباب لممارسة الهوايات والأنشطة الرياضية في أوقات فراغهم، لامتصاص الطاقة الزائدة لديهم، وغرس مفاهيم الروح الرياضية، من خلال الاهتمام بممارسة الرياضة المدرسية والجامعية، وتشجيع تنظيم الأولمبياد في المدارس، لزيادة فرص الممارسة، وتأصيل مبدأ المنافسة الشريفة بين الطلاب، ومبادئ وشعارات الأمن والأمان، بدلا من العدوان والإيذاء، وخاصة لدى النشء، من خلال زيادة أعداد مراكز الشباب وتفعيل دورها.
– النموذج والقدوة الحسنة، من أفضل أساليب التربية الحديثة، لذا يلزم تعميم ونشر السيرة الذاتية لمشاهير العلماء والقادة فى كافة المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، وغيرها، من ذوي السمعة الطيبة والحسنة، وتداولها في كافة وسائل الإعلام، لتشجيع الشباب على الاقتداء بهم، كنماذج ناجحة ومشرفة.
– نشر التوعية الاجتماعية والثقافية بدور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وخاصة في ما يتعلق بتأصيل القيم والمعايير الاجتماعية والعادات السليمة ومساعدة الأسرة في العودة لممارسة دورها الطبيعي في تربية النشء والشباب.
– تفعيل البرامج والأنشطة الاجتماعية فى المدارس والجامعات، التي تهتم بشكل خاص بالتنمية البشرية ومبادئ حقوق الإنسان وزيادة الانتماء والمشاركة المجتمعية للشباب من الجنسين ونبذ أفكار العنف واستخدام القوة من دون مبرر.
– التوسع في البرامج الإعلامية، التي تستهدف نشر الثقافة الأمنية في مواجهة العنف، تجنب أساليب الإثارة والتشويق المبالغ فيها في نقل وتوصيف وتحليل الأحداث العنيفة، سواء كانت في التظاهرات أو المسيرات أو المباريات الرياضية، والتأكيد على مفاهيم الحوار والمناقشة الجماعية الهادفة. وأشارت القبندي في نهاية دراستها إلى العديد من الأنشطة الاجتماعية والوقائية للتصدي لظاهرة العنف، منها:
– تنشيط العمل الجماعي الخدمي في المجتمع، مثل: حملات التنظيف، غرس الأشجار، المعسكرات، العمل التطوعي والعمل الخيري، الأنشطة الاجتماعية وغير ذلك. – ممارسة الرياضة الفاعلة، التي تنمي الجسم ومهاراته وتفرغ الطاقة المشحونة في مكانها المناسب.