
كتب محرر الشؤون العربية:
لم يعبأ المتظاهرون في العراق بموجة الحر الشديدة التي تجتاح بلادهم، وغابت الفوارق العرقية والمذهبية بين حشود بشرية خرجت إلى الشوارع، للإعراب عن نيتها رفع سقف المطالب إلى حدّ بات يهدد أسس النظام السياسي، وذلك خلال تظاهرات عمَّت العاصمة (بغداد) ومدناً أخرى منددة بفساد الطبقة السياسية في البلاد، ما أعاد مرة أخرى الحديث عن المشروع الوطني العراقي في مرحلة ما قبل الغزو الأميركي عام 2003.
وارتفع سقف توقعات العراقيين، بمطالبة المتظاهرين بـ «إلغاء الوقفين السُني والشيعي»، وتحويلهما إلى «وقف ديوان المسلمين»، وإقرار قانون تجريم الطائفية والمذهبية، كما طالبوا أيضاً بتشكيل حكومة تكنوقراط وإصلاح النظام القضائي.
وتضامن مع هذه المطالب المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، وأعلن متحدث باسمه دعمه الإصلاحات، التي أقرَّتها الحكومة ومجلس النواب العراقيان لمكافحة الفساد، مشدداً على ضرورة إصلاح النظام القضائي، للتماشي معها، لكن الاتهامات طالت السيستاني نفسه، على اعتبار أن الأحزاب الدينية والطائفية ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي قد وصلوا إلى الحكم بمباركته.
حالة الهيجان، التي سرت في شوارع العراق، وارتفاع حدة المطالبات الشعبية، دفعت رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى «التحذير من إسقاط النظام السياسي»، واعتبر في تغريدة له على «تويتر»، أن «غياب الشرعية سيعني سيطرة المجموعات المسلحة على البلاد».
رؤى متشائمة ومتفائلة
نخب سياسية وفكرية عراقية أكدت في لقاءات متلفزة وتصريحات صحافية عديدة، أن معطيات الواقع العراقي بعد عام 2003 «لا تسمح للمرء بأن يتبنى رؤى متشائمة أو متفائلة حيالها، وإنما الأخذ برؤية تجمع بينهما في آن واحد»، موضحين أن العراق منذ الاحتلال عام 2003 «لم يعد دولة هدف ومواطنة ومؤسسات فاعلة ومؤثرة، وإنما دولة سلطة ومكونات وإقطاعيات طائفية وإثنية تنتشر فيها ثقافة التهميش والترهيب الطائفي والفساد والإفساد».
وإذ شددوا على أن معطيات الواقع المعاصر لا تسمح بإحداث تحوّل حقيقي، فقد أبانوا أن مستقبل العراق «يرتبط بمجموعة مشاهد، الأول يعني استمرار التردي والتراجع الحضاري، وقد يفضي إلى التقسيم»، كما حدث في تجزئة يوغوسلافيا، فيما يفترض المشهد الثاني، أن العراق «شهد تغييراً، وتبعا لذلك، فإنه يفترض حدوث تحولات شاملة وجذرية تؤدي إلى الالتزام بعملية ديمقراطية حقيقية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإلغاء المحاصصة الطائفية، لكن هذا يظل مستبعداً الوصول إليه في العراق على المدى القصير».
ولفتوا الى أن الواقع العراقي «سيستمر مقترناً بنوعين من المعطيات في آن واحد: أولهما تغليب الولاءات الفرعية، بأنواعها، على الولاء للوطن، فالتنشئة الاجتماعية والسياسية، التي خضع لها الفرد العراقي خلال أكثر من عقد متفاعلة مع تأثير مدخلات الفقر والتخلف في تكريس مشهد التردي والتراجع الحضاري لا تسمح بغير ذلك».
أما ثانيهما، فهو «انتشار إدراك، مفاده أن تغليب الولاء الفرعي على الوطني لا يؤدي فقط إلى استمرار تراجع العراق حضارياً وإخراجه من صناعة التاريخ، وإنما أيضا تقسيمه إلى دويلات متصارعة على الأرض والموارد وتابعة لدول الجوار الجغرافي».
وأكدت النخب أن «ما يساعد على انتشار مثل هذا الإدراك الإيجابي، أن سلبيات الواقع العراقي الراهن لم تحل من دون بروز كتل بشرية واسعة الحجم في المناطق الحضرية تتميَّز بتوجهاتها الحضارية، وتتخذ من الأصالة والحداثة مدخلاً للتعامل الواعي مع معطيات الواقع العراقي»، مشيرة الى أن تلك الكتل «لا تتردد في المطالبة بإحداث التغيير الحقيقي والشامل في العراق، ولا تتردد كذلك عن إيقاع التأثير الجاد في أنماط سلوك صُناع القرار العراقي، تأميناً لمطالبها في التغيير»، مؤكدة في الوقت ذاته، أن الوقت لا يزال مبكرا لجني ثمار عملية الإصلاح، التي يرى مراقبون، أنها «قد تكون بداية لاستعادة العراق كوطن جامع لكل الطوائف والمذاهب والمكونات».
خارطة للتحالفات
خطوة العبادي لمكافحة الفساد، قرأها مراقبون على أنها «فتحت الأبواب للإصلاح، وهي بذلك بداية بحاجة إلى تصور متكامل وأهداف محددة، وليس الاكتفاء بشعارات، فكل شعار منها كمحاربة الفساد، أو إنهاء المحاصصة، وغيرهما من شعارات تلامس مشاعر المواطن، بحاجة إلى خارطة طريق ووضوح في الخطوات المرتقبة».
وأكدوا أن «مثل هذه الخارطة بحاجة ماسة إلى تحالفات سياسية برلمانية وشعبية قادرة على الدفاع عنها، ومن هنا، من الضرورة أن يشرع العبادي في المساهمة في إعادة الاصطفاف السياسي، بما يفرز برلمانياً وشعبياً قوى تؤمن وتدعم الإصلاح، للوقوف في وجه المتضررين من هذا الإصلاح والقوى الطائفية والفاسدة».
خطة المكافحة متواصلة
في غضون ذلك، يواصل العبادي خطته لمكافحة الفساد المستشري في البلاد، للإطاحة بالخط الثاني مما أسماه «دولة الفساد»، التي تغوَّلت في فترة سلفه نوري المالكي.
ويشمل الخط الثاني وكلاء الوزراء والمديرين العامين وقادة وحدات عسكرية وحلقات إدارية خلّفها المالكي في بنية مجلس الوزراء، ومن المنتظر أن تتوسع خطة العبادي في محاربة الفاسدين إلى المحافظين والطاقم المحيط بهم، خصوصاً أن التعيينات التي تتم في المحافظات كانت في ارتباط وثيق بظاهرة الولاءات في رئاسة الوزراء.
ويُعد هذا الخط مركز الفساد والصفقات المريبة أكثر مما هو شائع لدى الخط الأول، الذي يمثله الوزراء ممن يسعون إلى إبعاد الشبهات عنهم وتفويض الأمر لمعاونيهم.
وقال محللون إن الخط الثاني من المسؤولين «مثّل في الغالب الأداة الفعلية لمنظومة الفساد، سواء ما تعلق بصفقات الأسلحة المشبوهة، أو بعمليات إعادة الإعمار، أو بدعم الميليشيات، وتوظيفها في الحصول على عمولات من مختلف الصفقات».
ويتجه العبادي، أيضاً، إلى الإطاحة بفريق عمل المديرين العامين في مجلس الوزراء، الذين باتوا يشكلون حلقة كبيرة تؤثر في مفاصل الحكومة نمت خلال فترة رئاسة المالكي، بعد أن أمر بإعفاء أمين عام مجلس الوزراء حامد خلف أحمد من منصبه، وفق بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الحكومة صدر أخيراً.
ولم يوضح البيان أسباب الإعفاء، لكنه يأتي في سياق ما أعلنه العبادي عن أنه سيسير في خطوات جدية نحو الإصلاح ومكافحة الفساد.
وشغل أحمد منصب مدير مكتب المالكي خلال ولايته الثانية كرئيس للوزراء بين عامي 2010 و2014، ورغم قربه وعلاقته القوية بالمالكي، لكنه عيّن أمينا عاما لمجلس الوزراء في حكومة العبادي.
ويتوقع أن تشمل الإطاحة بقيادات من حزب الدعوة الإسلامي الذي ينتمي إليه العبادي، الذين سبق للمالكي أن أغرق بهم مختلف الوزارات، فضلا عن المؤسستين العسكرية والأمنية، لضمان سيطرته على الحكم، ويعتقد أن تزيد هذه الخطوة في تعقيد مهمة العبادي في مكافحة الفساد.
لكن محللين نفوا أن يصل الأمر إلى حملة «اجتثاث حزب الدعوة» من السلطة، تمهيدا لانسحاب العبادي نفسه من الحزب، وقالوا إن الأمر يقتصر على الاستغناء عن أشخاص «أزكموا الأنوف بروائح الصفقات الفاسدة».
ومن المتوقع أن تتمدد حزمة الإصلاحات إلى المحافظات، حيث بادر محافظ الأنبار إلى البدء بخطوات للتصدي للفساد، وإنهاء نظام المحاصصة في توزيع المناصب الحكومية.