كتب محرر الشؤون الدولية:
بعد 54 عاماً من العداء والكراهية، بدأت الولايات المتحدة وكوبا تقارباً تاريخياً، برفع العلم الأميركي فوق مبنى السفارة الأميركية في العاصمة الكوبية، بحضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي حلَّ بهافانا، في زيارة لتكريس المصالحة، وتطبيق العلاقة بين بلدين، قربت بينهما الجغرافيا، وباعدتهما الأيديولوجيا والحسابات الاستراتيجية.
ولإعطاء الحدث بُعده التاريخي والرمزي، قام عناصر المارينز الثلاثة؛ جيم تريسي ومايك إيست ولاري موريس، الذين أنزلوا في عام 1961 العلم الأميركي، الذي كان يرفرف فوق مدخل السفارة، برفعه مجدداً فوق المبنى، تكريسا للتفاهم الحاصل بين واشنطن وهافانا، بعد كل هذه المدة من القطيعة.
اتفاق تاريخي
المراقبون يرون أن الانفتاح على كوبا يُعد اليوم محاولة جدية من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، لحصد نقاط في سياسته الخارجية، المنتقدة على أكثر من صعيد، داخليا وخارجيا، وكان أوباما أكد أن النهج الجديد في العلاقات الأميركية – الكوبية، من شأنه أن يخلق كثيراً من الفرص للشعبين؛ الأميركي والكوبي، معا، وأن الخيار الأفضل في التطبيع مع هافانا على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع الكوبيين، سيكون من خلال مراقبة دور منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان فيها.
وبدأ التغيُّر في علاقات واشنطن وهافانا، من خلال إطلاق سراح السجين الأميركي والعامل في الوكالة الأميركية للتنمية آلان غروس، الذي قضى في سجون هافانا 5 سنوات منذ عام 2009، الذي اعتبر حجر الأساس للاتفاق التاريخي بين العاصمتين، وكان أوباما عند توليه الرئاسة في ولايته الأولى قام بتخفيف العقوبات عن كوبا، والانفتاح عليها قليلاً، وذلك بالسماح لشركات قطاع الاتصالات بالعمل على تقديم الخدمات الخلوية والأقمار الصناعية في كوبا، وسمح للمواطنين الأميركيين بإرسال تحويلات مالية لأهداف إنسانية عائلية، والسفر إلى كوبا لأسباب تعليمية أو دينية، لكن اعتقال غروس عكّر هذا الانفتاح الأميركي، الحذر أساساً، من نظام كاسترو الشيوعيز
وجاء اعتقال غروس، كورقة ضغط، أراد كاسترو منها الإفراج عن الكوبيين الخمسة، وهم ضباط استخبارات اعتقلوا في ميامي في عام 1998، وحكم عليهم في عام 2011.
وتشيد كثير من الدول ومنظمات حقوق الإنسان بتطبيع العلاقات الأميركية – الكوبية، ويعدونها خطوة في المسار الصحيح، لإعادة كوبا إلى المجتمع الدولي، وأن سياسة العزل التي اتبعتها واشنطن، ولأكثر من خمسة عقود، لا يمكن أن تسفر عن تحسن في ملف حقوق الإنسان الكوبي، كما رأى الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية (OAS)، خوسيه أنسولزا، الذي لم يخفِ سعادته بهذا التقارب، متمنيا على كوبا، في ظل الإصلاح الاقتصادي الذي تقوم به في عهد الرئيس راؤول كاسترو، العمل على الإصلاح السياسي.
ويرى خبراء شاركوا في قمة أبريل للأميركتين، أننا نشهد بداية «حقبة جديدة» في علاقات نصف الكرة الغربي، التي أسفرت عن خسارة مالية لكوبا تقدَّر بـ 1.126 تريليون دولار، وفق تقارير الأمم المتحدة.
ويعود التوتر في العلاقات الكوبية ـ الأميركية إلى زمن الحرب الباردة، بعد استيلاء فيديل كاسترو وتشي غيفارا ومجموعة الثوار الشيوعيين على السلطة في عام 1959، ونجاحهم في الإطاحة بالرئيس فولغينسيو باتيستا.
حينها عمد كاسترو ونظامه الشيوعي إلى زيادة التعامل التجاري بين بلاده والاتحاد السوفييتي، آنذاك، وقام بتأميم العديد من ممتلكات الولايات المتحدة، ورفع الضرائب على الواردات الأميركية.
فكان رد واشنطن، بخفض واردات السكر الكوبية، وفرض حظر على حمّى الصادرات الكوبية، التي طورها الرئيس جون كينيدي إلى حصار اقتصادي، شمل حتى فرض قيود على السفر إلى كوبا. وتمَّت القطيعة فعليا بين البلدين في عام 1961، لتبدأ عمليات الاستخباريات السرية الأميركية بالعمل على إسقاط نظام كاسترو.
سلسلة كبيرة من العمليات باءت جميعها بالفشل، الأمر الذي جعل من نظام هافانا التوجه النهائي إلى الاتحاد السوفييتي، والاتفاق معه سراً على بناء قاعدة صواريخ على الجزيرة.. وبعد اكتشاف واشنطن لهذه الخطط، قامت بفرض حظر بحري على الجزيرة الكوبية، وطالب الرئيس كينيدي، آنذاك، بتدمير قاعدة الصواريخ، لتنتهي الأزمة الكوبية – الأميركية باتفاق ينصُّ على تفكيك القاعدة الصاروخية، مقابل تعهد الولايات المتحدة الأميركية بعدم غزو كوبا.
مباحثات سرية
وعاشت كوبا جاراً لدوداً لأميركا طيلة زمن الحرب الباردة، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي لم يدفع واشنطن إلى تغيير سياستها تجاه كوبا ونظام كاسترو.. بل على العكس تماما، فقد زادت أميركا من حصارها له، بعد تمرير قانون ديمقراطية كوبا في عام 1992، وقانون هيلمز بيرتون، القاضي بالحرية والتضامن الديمقراطي في عام 1996، الذي نصَّ على أن مقاطعة كوبا لن تنتهي، إلا بانتخابات نزيهة، والتحول إلى حكومة ديمقراطية يستبعد كاسترو عنها.
وبدأت المباحثات السرية بين كوبا وأميركا في عام 2012، واستمرت أكثر من عام ونصف العام، وكانت قد انطلقت من ملف الجاسوس الأميركي رولاند ساراف تروخيوو، الذي أدَّى دورا مهما في تزويد الاستخبارات المركزية الأميركية بمعلومات مهمة للغاية، بحكم كونه كان قد تمكن من التغلغل في عمق المخابرات الكوبية، ليزج به في سجون كاسترو لمدة عشرين عاما.
قامت حينها واشنطن بإطلاق سراح خمسة ضباط كوبيين من سجونها، وتخفيف القيود والحظر المالي والخدمات المصرفية على كوبا، وقامت كوبا بالعمل على تخفيف قبضتها الأمنية، وذلك بالإفراج عن ثلاثة وخمسين سجينا، كانت تعتبرهم واشنطن معارضين سياسيين لنظام كاسترو الشيوعي، وقامت وزارة الخارجية الأميركية، من جهتها، بالنظر في ملف كوبا، وإزالتها من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
رفع تدريجي للعقوبات
ورغم كل تلك التحفظات حول سجلات حقوق الإنسان في كوبا، فقد صدرت تعليمات أميركية جديدة، بخصوص التعامل مع الجزيرة الشيوعية، بداية هذا عام 2015، برفع حظر السفر والتجارة المشتركة، والسماح للمسافرين من الولايات المتحدة بزيارة كوبا، من دون الحصول على ترخيص من الحكومة، وكذلك السماح لشركات الطيران بالسفر من كوبا وإليها، ورفع الحظر الاقتصادي والمالي والسماح باستخدام بطاقات الائتمان الأميركية في كوبا، والسماح لشركات التأمين الأميركية بالعمل في القطاع الصحي والتأمين على الحياة والسفر للذين يعيشون في كوبا أو يزورونها، وبالإضافة إلى التسهيلات المصرفية في المعاملات المأذونة، والسماح لشركات الاستثمار الصغيرة بالعمل مع شركات كوبية، وكذلك السماح بتوريد مواد البناء لكوبا. ولا يزال الكونغرس يسيطر على قرار رفع العقوبات الاقتصادية على كوبا، حيث عبَّر أعضاء الكونغرس في كلا الحزبين الحاكمين في واشنطن، عن قلقهم من إلغاء قانون هيلمز، وأصرَّ كل من أعضاء مجلس الشيوخ من أصول كوبية، العضو الجمهوري ماركو روبيو، والعضو الديمقراطي روبرت مينينديز، أنه لن يحصل إلغاء لهذا القانون على المدى القريب، وأن أي انفراج لن يؤثر في وضع حقوق الإنسان المتردي في كوبا، في حين أكد كيري خلال تدشين إعادة العلاقات بين البلدين، أن العقوبات «سترفع بالتدريج، كلما أظهرت السلطات الكوبية مزيداً من الانفتاح والديمقراطية».