كتب محمد عبدالرحيم:
بخلاف الأفلام الروائية التي تتناول الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الأرض المحتلة، والتي تجعل منها إطاراً للعمل الدرامي الذي تتحرَّك فيه شخوص الفيلم، يأتي الفيلم الوثائقي، ليحاول كشف جوانب أخرى للحياة المتوترة فوق هذه البقعة من الأرض. وسنقتصر على الأفلام التي قام بها كل من الجانبين العربي والإسرائيلي، من دون التجارب الكثيرة التي قام بها فنانون أجانب ناقشوا الكثير من جوانب الحياة في الأرض المحتلة. وأول ما نلاحظة على هذه الأعمال.. هو تراوحها بين الانتقاد الحاد للوضع الراهن من جانب فناني إسرائيل، مقابل التباكي والتأسي لذكريات يخشى أصحابها ضياعها، وهو السمة الأكثر لدى الفنان الفلسطيني.
لعبة ترميم الذاكرة
الملاحظ على فيلمي ناهد عواد «5 دقائق من بيتي 2008» وليانة بدر «القدس مدينتي 2010»، أنهما دارا حول ذكريات متآكلة، تحاول كل منهما القبض عليها، كجزء من تاريخ يغيب سريعاً، أو غاب بالفعل.
فالبحث عن الماضي، من خلال اللحظة الحالية وحالة التناقض المأسوي، هما الخط الدرامي للفيلمين، رغم صيغة التهكم والسخرية السوداء في الموضوعين. فالتشابه يبدو واضحاً، من خلال لعبة البحث عما فُقِد، ومحاولة مستميتة لإحياء ذكريات انتهت، إلا من مخيلات أصحابها.
وعن طريق ما كان وما هو كائن بالفعل، تبدو حالات التأسي، وإن شابتها درجات متفاوتة من السخرية.
يتم السرد السينمائي للفيلم الوثائقي «5 دقائق من بيتي» عن طريق تداعيات لصور فوتوغرافية قديمة تعود إلى مطار القدس، ومنها تبدأ حكايات بعض مَن عاصر تلك الفترة.
فالمطار الذي يقع على بُعد 5 دقائق من رام الله، والذي تم احتلاله من قِبل القوات الإسرائيلية عام 1967، أصبح اليوم نهاية لطريق مسدود في وجه غالبية سكان الضفة الشرقية، بعدما كان مكاناً يسمح للفلسطينيين التنقل عبر العالم، في خمسينات ومنتصف ستينات القرن الفائت، ولم يتبق منه إلا مَعْبَر «قلنديا» الذي يتطلب العبور منه إلى القدس تصاريح خاصة لا تعطى إلا للحالات المرضية أو لموطفي المؤسسات والهيئات الدولية.
ومن خلال الذكريات التي يعيد حكيها الكثير من الأشخاص، سواء من الطبقة الوسطى أو البسطاء، من نساء ورجال، ارتبطت ذاكرتهم بالمطار في مرحلة زمنية سابقة تبدو الآن كحلم بعيد، كما ارتبطت بتاريخ احتلال يريد محو المكان والذكريات من العقول، لكن هذه الذكريات تنتقل أيضاً وتنقلنا معها، عبر الصور الفوتوغرافية العديدة التي تستخدمها المخرجة، وشهادات الشهود الذين عاصروا الماضي، إلى تأمل ما وقع من تغير أيضا على صعيد البنية الاجتماعية الفلسطينية نفسها.. كيف كانت صورة المرأة وكيف أصبحت، وكيف أصبح الناس أكثر تعصباً، وأكثر قلقاً وانعداماً للثقة في ما يجري حولهم.
بينما تبحث ليانة بدر في «القدس مدينتي» عن أيام طفولتها، من خلال الصور الفوتوغرافية للمدينة قديماً، وما تسجله الكاميرا لحال المدينة الآن، وقد أصبحت تحيطها المستوطنات من كل جانب، بالإضافة إلى السور الإسمنتي والبوابات الضخمة، التي يخضع عندها المواطن الفلسطيني إلى تفتيش دقيق، وتصريح خاص للعبور.
وتتوسل المخرجة وكاتبة السيناريو بمحاولة تذكّر أغنية قديمة سمعتها في عيد ميلادها الرابع ــ أغنية تفضلوا معي اليوم عيدي، ليسري جوهرية وألحان سلفادور عرنيطة، من الأغنيات الشهيرة في الخمسينات ــ لتقابل أصدقاءها القدامى، وتتحدث معهم عما كان، فيما تستعرض الكاميرا الوضع الحالي للمدينة التي تحوَّلت إلى سجن كبير.
فمنزل طفولتها والشوارع والأزقة التي كانت تعرفها أصبحت تعلوها الأعلام الإسرائيلية.
وبالمقارنة، نجد أن الفيلمين بهما الكثير من خطوط الالتقاء، وأن الحكاية العادية والمتوقعة في «القدس مدينتي» تعلو عليها حالة «5 دقائق من بيتي»، من خلال تكنيك السرد وطريقة بناء السيناريو، فالأسلوب السردي ابتعد تماماً عن التوثيقية المباشرة، والكليشيهات السياسية المعروفة، بل قام بدمج التوثيق بالخيال، أعطى الفيلم بعضا من الحياة لهذه الذكريات، بدلاً من التباكي عليها، وإقامة علاقات متناقضة مباشرة، كما في فيلم ليانة بدر.
وقد ساعد ناهد عواد أنها تحكي عن مكان وعلاقة شخصياته المتعددة به، كالطيارين والمضيفات، أو الموظفين، سواء بالمطار أو في وكالات للسفر، إضافة إلى حكاياتهم الشخصية ولحظاتهم الفارقة أثناء عملهم، كالحب والزواج أو ما شابه من لحظات مهمة في حياة الإنسان، وهو ما ساعد على خلق تواصل، ولو بدرجة مقبولة، بين التاريخ الخاص والعام للمكان، والحالة العامة التي يعانيها الفلسطينيون الآن.
لكن الذي يميز الفيلمين بالفعل، هو الحس الفني في تناول موضوع كل منهما، فكل من المخرجتين ابتعدتا عن المشاهد المتداولة في وسائل الإعلام والفضائيات التي تعرض ليل نهار الطبيعة المادية للصراع، بل تعمّق حسهما إلى حقيقته، وهو ضياع الذاكرة/التاريخ، وهو ما تحاول القوة العسكرية الإسرائيلية محوه بشتى الطرق، من تغيير أسماء الشوارع، وتشويه البنايات، وهدمها.
وإن كانت نجحت نسبياً في السطو على الجغرافيا، فإن الفيلمين أدركا بوعي شديد جدوى الاحتفاظ بالتاريخ حياً يتواتره الناس في جلساتهم، حتى لو كانوا داخل سجن كبير يدعى وطنهم.
تذكارات مصيرها المتاحف
على النقيض من الفيلمين السابقين، يأتي فيلم «2048» ليارون كفتوري عام 2010، ليسرد المستقبل من خلال استقراء نقدي للحاضر.. وبينما كانت الذاكرة الفلسطينية تحاول البقاء حيّة، إلا أن ذاكرة المخرج الإسرائيلي تبحث عن النسيان. فقط مائة عام هي كل عُمر دولة إسرائيل
(1948 ـــ 2048)، وستصبح أثراً من آثار التاريخ، مجرَّد ذكرى مُشوّشة في عقول مَن عاصروها، ليتحوَّل حلم تيودور هرتزل إلى وثائق مُتربة تتحدَّث عن دولة كانت، ومقابر مندثرة في أماكن متفرقة، ولاجئين في دول العالم يحلمون من جديد بالعودة إلى الأرض الموعودة. هكذا، يرى الفيلم مصير الكيان الإسرائيلي، فإسرائيل ستأكل نفسها، وستصبح مجرد عاديات أثرية في متجر رجل فلسطيني يحكي عن تاريخ قديم لم يعرفه أحد، وقد عاد الفلسطينيون إلى أراضيهم وإقامة دولتهم، وفق دورة التاريخ وحتميته. فالكيان الصهيوني القائم على المجازر واحتلال الأراضي الفلسطينية، وجهاز مخابراتي يحكم دولة تدّعي الديمقراطية، بالإضافة لجرائم الاغتيالات المنظمة لكل مناهضي ومعارضي هذا الاحتلال داخل إسرائيل وخارجها.. كل هذا جدير بزوال هذا الكيان المسمى دولة.
فالفيلم يرى أنها دولة بوليسية في الأساس، كما أن مشكلاتها الداخلية المتأصلة، والتي لا تحب إسرائيل ذكرها، وكأنها من التابوهات، هي التي ستقوّض هذا الكيان وتفنيه.. كفساد الفئة الحاكمة، والنزاع ما بين الأصوليين والعلمانيين، والتفاوت الطبقي الصارخ.. كلها أسباب كافية لتدمير إسرائيل ذاتياً، ليصحو العالم ذات يوم ويبحث عن اسم إسرائيل في متحف التاريخ، بعد مائة عام من كابوس ثقيل كان يجثم على ضمير هذا العالم.
من خلال خيال توثيقي يحاول مخرج إسرائيلي (يوجو نيتزر) في عام 2048 البحث عن إسرائيليي الشتات الجديد، بعدما دُمرت إسرائيل وانتهت تماماً، ولم تعد باقية فقط، إلا في ذكريات مَن شهدوا نهايتها وعاصروها.
وعن طريق حوارات مُتخيّلة، يحاول الفيلم اكتشاف أسباب ما حدث، وشعور هؤلاء بعد زوال دولتهم. وهنا لا يوجد إلا قِلة من الناس تروي حكاياتها عن كيفية طرد العرب لليهود، وإقامة الدولة الفلسطينية. وشهود العيان هؤلاء والمشتتون في عدة أماكن، استشعروا خطر زوال دولتهم، ففروا هاربين، ليواصلوا حلماً قديماً.. فقط العودة إلى أرض الميعاد، والعيش كأقلية مسالمة وكرعايا في الدولة الفلسطينية.
تبدأ حكاية الفيلم بعثور المخرج الشاب في عام 2048 على شريط لفيلم وثائقي، قام جده بتصويره عام 2008، في الذكرى الستين لتأسيس الكيان الصهيوني، وما كان عليه من صلف وتعنت، ليسرد الواقع الإسرائيلي الحالي من وجهة نظر الماضي، وبالمقارنة بالعام 2048 اللحظة الراهنة للمخرج، وبالمقابل لا يجد من إسرائيل التي كان يشاهدها كما صوّرها جده سوى مقابر تشهد على وجودهم في ما مضى، وبعض الجرار الفخارية التي تحتفظ برماد موتاهم، وقسم مهجور للدراسات الصهيونيّة في مكتبة برلين يعلوه التراب ولا يقتربه أحد، وكأنهم لا يريدون تذكّر هذا التاريخ البائد. إضافة إلى متجر لبيع التذكارات في فلسطين، حيث يقوم فلسطيني ببيع السائحين آثار تاريخ كان ولن يعود.
اعتمد المخرج هنا خطاً توثيقياً ينتمي لعام 2008، وآخر خيالياً يسرد المستقبل عام 2048، فطريقة السرد هذه جعلته يلعب اللعبة بالعكس، يوثق للحاضر، وكأنه حدث في الزمن الماضي، ويتخيل المستقبل روائياً، وبالطبع استعان بممثلين محترفين لتأدية أدوار يهود الشتات المستقبلي والحتمي.
لم نهلل للفيلم على اعتبار أنه يحلم معنا، ولو سينمائياً بزوال إسرائيل، فالفيلم من الواضح أنه رسالة تحذيرية لساسة إسرائيل، حتى يغيروا من سياساتهم التي ستؤدي إلى انهيار هذا الكيان. فهو يُبشرهم بمصير العرب الآن، وأنهم سيعودون سيرتهم في شتات يحلمون معه بالعودة.
إلا أن ما يلفتنا في الفيلم شيئان:
أولهما أن المشكلات التي تعانيها إسرائيل، والتي استعرضها المخرج تتشابه والمشكلات التي يعانيها العرب، بفعل ساستهم الأجلاء، وهذا كفيل بالقضاء على أي شكل من أشكال هذه الدول.
والصياح والدعاء ليل نهار على الولايات المتحدة، القائمة بدور الراعي الرسمي لإسرائيل لن يُجدي، لأنه الدور نفسه الذي تقوم به لمساندة أنظمة الحكم العربي في مواجهة شعوبها.
الأمر الآخر، أن الفيلم حتى لو دار في إطار الخيال – ونحن نتحدث عن عمل فني في الأساس- يدل على أن الجيل الجديد من المخرجين الإسرائيليين – بعضهم – لم يعد مفتوناً بخرافات الدولة اليهودية، ولم يعد يقدم أفلاماً دعائية عن ديمقراطية وهمية تتغنى بها وسائل الإعلام الصهيونية.
فالحديث عن دولة دينية عنصرية لم يعد كما كان – لم يزل البعض من السينمائيين الإسرائيليين يروّج لهذه التفاهات حتى الآن – فحالة الانتقاد المتعالية أصبحت سمة من سمات السينما في إسرائيل. كما أن هناك الكثير من المقولات الوهمية الأسطورية سقطت، وبدلاً من مواصلة التزييف، أصبحت مواجهته النغمة السائدة، ولو بدرجات متفاوتة.