
كتب محمد جاد:
ما يمر به المجتمع العربي، الآن، ربما يُوحي بإعادة النظر في مشروعات فكرية وتحديثية عربية حاولت الخروج من نفق الجهل المظلم، ومحاولة اللحاق بركب الحضارة.. وعلى مدار عقود، كلما أصبحنا في وضع أكثر مأساوية، نسرع لنعيش على تذكر الحالات الاستثنائية التي توحي لنا بأننا لم نزل على قيد الحياة، بخلاف وضعنا الحقيقي، بأننا منذ زمن لم نكن سوى عالة على الحضارة، وآفة استهلاكية لمنجزاتها التقنية.. فهل أصبحنا بالفعل خارج مدار التاريخ؟ أم أنه من البداية – حتى في لحظات شِبه تنويرية – كنا نفكر خارج هذا المدار، وكأننا كائنات تسبح في فلكها الخاص؟
إغناء لهذه الأطروحات، التقت «الطليعة» أستاذ الفلسفة، ووكيل المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون بالقاهرة د.وائل غالي، في حوار، شرح من خلاله رؤيته، موضحا أبعاد أزمتنا، بعيدا عن الخطابات البلاغية والدعائية التي تروّج لوجهات نظر موهومة، تعد بدورها آفة من آفات الجهل بالواقع وآلياته. وهنا نص الحوار:
● ما أسباب عدم نجاح مشروع ومحاولات التنوير في العالم العربي؟
– لأننا منذ البداية فشلنا في تحديد الأهداف، فلم نكن نعرف أهدافنا الحقيقية من وراء ما نفعل، أو نحاول فعله، وينطبق ذلك على المجتمع، ككل، سواء المصري والعربي أو الإسلامي.. بعبارة أخرى، لم يكن الهدف هو التنوير فعلاً، وبالتالي لم تكن أهدافاً ثورية حقيقية، ويشهد على هذا ضعف تاريخ الحركة الثورية، سواء في مصر أو الأقطار العربية كافة.. وعلى سبيل المثال، نجد أن أسماء من مجالات فكرية متباينة، مثل: جمال حمدان، مصطفى العقاد، حسين فوزي.. وغيرهم، كان تركيزهم على استمرارية التاريخ المصري، وليس على الانقطاع في التاريخ.. ليس هذا فحسب، بل وكانوا يتبارزون على أفضل الوسائل للتدليل على هذا الاستمرار، فشخصية مصر هو حوار حول شخصية الثبات والاستمرار، وهذا ما يؤكد طبيعة المجتمع المصري، من خلال البحث في مجالات، مثل: الجغرافيا والنقد والتاريخ، على الترتيب من الأسماء السابق ذكرها، فهناك شبه إجماع من كبار الكُتاب على ترسيخ حالة الثبات هذه.. أما الثورة الحقيقية، فهي «قطيعة» في أساسها.
أما علي عبدالرازق وطه حسين، فهما حالة نادرة، لها امتدادات ظلت محدودة، رغم ضجة التأثير.
● هل من الممكن أن نشهد نقداً جريئاً للتراث ومرجعياته التأسيسية، أي نقد النص وعدم الالتفاف والاكتفاء بتأويله؟
– حدث هذا بالفعل، من خلال طه حسين وعلي عبدالرازق، والأخير أخطر من الأول، لكونه قاضياً شرعياً يبحث عن نظام سياسي حديث من داخل المرجعية الإسلامية، وامتدادهما من خلال أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله وسيد القمني، ونصر حامد أبوزيد، ومحاولة مصطفى محمود في كتابه «الله والإنسان»، ومحمد عمارة، في مؤلفه عن ابن رشد، قبل السبعينات، إضافة إلى خالد محمد خالد، عبدالرحمن الشرقاوي، وتوفيق الحكيم، وذلك في أعمال محدودة، وليس في جميع مراحل تطورهم الفكري.. يحضرني هنا كتاب عبدالصبور شاهين «تاريخ القرآن»، الذي أنجزه في الستينات، ويُعد من أهم مؤلفاته. وللمفارقة، أن يصبح شاهين أهم خصوم نصر أبوزيد في قضيته الشهيرة، ورغم هذا، فالتأثير كان محدودا جدا، فـ «قوة الدفع التثبيتية للواقع أقوى بكثير من قوة الدفع التغييرية»، والمناخ المسيطر هو ثقافة العوام وأيديولوجيا العوام، ومُنظّري أيديولوجيا العوام، فكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق صدر عام 1925، و«في الشعر الجاهلي» لطه حسين صدر في عام 1926، وأسس حسن البنا جماعته عام 1928.
من ناحية أخرى، نجد أن طه حسين وجيله تم حجبه تماماً بعد يوليو 1952، إذ تم اعتبار هذا الجيل رمزاً للإقطاع الفكري. فالقاعدة الأعلى هنا، أنك في مجتمع محافظ، وكلما ظهرت قفزة أو تجاوز هنا أو هناك، أعاده الواقع كما كان، فالمجتمع هو الذي فشل، وليست النماذج الاستثنائية. مجتمع يستهلك أحدث ثمار الحداثة، ولم يزل تفكيره في كهوف العصور الوسطى، فهو مجتمع «توفيقي»، لا يجرؤ على الاختيار.