
محمد الغربللي:
أكثر ما يشتكي منه المواطنون في شهر رمضان، هذا الازدحام في أكثر ساعات النهار والليل، بحيث يتجنب الكثيرون الخروج، إن لم يكن لديهم حاجة ملحة لذلك، أو أن يرسموا قبل خروجهم ما يشبه خريطة الطريق، لتجنب الزحام أو الأماكن التي يزيد فيها الاختناق المروري.
فوق هذا الازدحام الذي اعتدنا عليه، وأصبح حالة يومية لا فكاك منها، كان هناك ازدحام مزدوج، عندما قامت وزارة الداخلية بما يشبه التجربة الأولى في عمليات «البحث عن السلاح» على الطريق الدائري السادس منذ أيام، لم يكن ازدحاما، بل ما يشبه التوقف الكلي عن السير، حيث امتد طابور السيارات نحو كيلومترين، والجميع يتأفف بانتظار المرور إلى غايته.
عموما، ليس هذا هو الموضوع محل تناولنا، بل تلك الصورة التي نشرتها الزميلة «القبس» في عددها الصادر بتاريخ 2 يوليو أثناء تغطيتها لحملة جمع السلاح.. صورة أحد أفراد التفتيش على الأسلحة وهو يشم زجاجة شفافة من البلاستيك يمكن رؤية ما بداخلها، وكأنه من دون عملية الشم لا يمكن معرفة إن كان يوجد بداخلها مسدس أو قنبلة يدوية أو أي نوع من أنواع الأسلحة التي يبحث عنها!
عنصر «الداخلية» هذا يريد التأكد من أن السائل الذي في الزجاجة مجرَّد ماء، وليس مواد أخرى ممنوعة.. ولو لم يكن التفتيش في رمضان، لسكب قطرات من الماء في كفه وتذوقه، من أجل مزيد من التأكد من عدم احتوائه على أي مواد سائلة ممنوعة.
عقلية داعشية
مأمورية أفراد الشرطة محددة وواضحة، من أجل الكشف عن أي مركبة قد تحمل أسلحة، وغير ذلك، فليس لهم الحق في شم سوائل أو غيرها من الأغراض الأخرى.. لكن، وبموجب التفكير والممارسة السائدين، تحوَّل أفراد الشرطة، ومنهم هذا الذي يشم السائل، إلى «شرطة دينية».. وبدلاً من ارتداء الدشداشة والغترة المسدلة، لبس اللباس الرسمي مع «كاب» على رأسه، متجاوزاً مهمته ومأموريته إلى البحث عن أي شيء، والشك في أي شيء قد تحتويه المركبة، وليس السلاح فقط.
القانون الذي أقرّ في مجلس الأمة حدَّد الأمر بجمع السلاح غير المرخص، لكن العقلية السائدة المقاربة للعقلية الداعشية أو النصراوية غلبت القانون وتجاوزته، لترسم هذه الصورة المنشورة في «القبس»، تجسيداً لتلك العقلية.
صورة أخرى
صورة أخرى للعقلية الداعشية تتناقلها الصحافة وتتطرَّق إليها عند تنظيم معرض الكتاب كل عام، متحدثة عن أجواء الرقابة الإعلامية الصارمة التي جعلت المعرض جسداً من دون روح.. المشهد لم يتوقف عند هذا الحد، فالرقابة الإعلامية «شغالة» على مدار الأيام، والصورة الجديدة هي لإحدى مكتبات الكويت المميزة- على الرغم من قلتها، وإغلاق بعضها، من جراء الخسائر المتواصلة- يدخل بعض الأشخاص سيدات أو رجال إلى المكتبة، تتجول أعينهم على عناوين الكتب المعروضة، للبحث عما إذا كان هناك كتاب ممنوع معروض للبيع، وأحياناً أخرى يقوم الرقباء «الجوالون» بالسؤال عن كتاب مدرج على قائمتهم ضمن الكتب الممنوعة، كنوع من الكمين على المكتبة.. وبحسن نية، قد يقدم إليهم مسؤول المكتبة الكتاب الذي يسألون عنه، وهنا يصلون إلى مرادهم بتحرير مخالفة قد تقود إلى التحقيق النيابي، فـ«العيون الداعشية» لا تنام ولا تستكين.
وبالنسبة للكتب المشبوهة، فهي ليست كتبا جنسية أو مخالفة للآداب العامة، لكنها كتب فكرية وبعضها مذكرات، لكن الفكر الداعشي الرقابي لا يهمه أي شيء من ذلك، وعلى جميع القراء ألا يرتقوا في قراءاتهم عما يحدده الرقباء الطوافون من كتب.
إذن، العملية ليست محصورة ومحدودة في مناسبة معرض الكتاب، بل هي مستمرة، وما على أصحاب المكتبات، وعلى الرغم من الخسائر وحالات الكساد التي يتكبَّدونها، إلا وضع أيديهم على خدودهم أمام هذه الصرامة الداعشية بمحاربة الفكر والثقافة.
نحن لا نقارن أنفسنا بدول مجاورة أو بعيدة عنا، عربية أو أجنبية، بل نقارن أنفسنا بما كان عليه وضعنا منذ عقود، قبل أن يخيّم علينا الفكر الداعشي خلال العقود الأخيرة، ويقوم بشبك العقول بخيوط عنكبوتية بصمت، ومن دون ضجيج، ويتبعها في وقت الحاجة بإصدار قوانين تعمل على تمتين تلك الخيوط، وتجعلها أكثر قوة وصلابة.
العجز المالي
آخر «الحكايات الداعشية»، وكنا قد تطرَّقنا إليها في «الطليعة» في أعداد سابقة، ولكن يُضاف إليها هذه المرة ناحية مالية، هي ما حدث في نهاية الأسبوع الماضي، عند إقرار الميزانية العامة للدولة، حيث أعلن وزير المالية عن العجز المالي هذا العام، عجز يفوق التوقع الحسابي، وفق أسعار النفط، وأكثر مما كان متوقعا.
إن مسؤولية وزير المالية وعمله، هو تغطية هذا العجز بالوسائل المتاحة، إذ يتم دفع راتبه ورواتب موظفي وزارته للعمل على تحقيق هذا الهدف، ليس العمل وحده، بل حتى «القتال»، فالمسؤولية أمانة لمن يتحمَّلها، لهذا كان على وزير المالية أن «يوشوش» في أذن وزير التربية وزير التعليم العالي، الذي تحدَّث أخيرا عن ملايين الأموال التي يمكن توفيرها، لو تم إقرار قانون التعليم المشترك في المحكمة الدستورية، لكن، وبحكم التفكير والهيمنة والممارسة الداعشية، لم يستطع وزير التربية، مع جميع زملائه ومعهم وعلى رأسهم أيضاً رئيس مجلس الوزراء، أن يتقدموا بقانون أو تعديل قانون التعليم المشترك، ولكن لم يكن أمام الوزير وزملائه ورئاسة مجلس الوزراء إلا التواري خلف ما سوف تقرره المحكمة الدستورية من قرار بهذا الشأن في أكتوبر المقبل، والمصيبة الأكبر، أنه ليس الوزير هو الذي تقدَّم بدعواه، كصاحب علاقة إلى المحكمة الدستورية، بل قام عدد من الطلبة ومحامٍ بالتقدم إلى المحكمة، للبت في هذا الأمر.
الحكومة التي تستطيع أن تمرر ما يحلو لها وتشتهيه من قوانين في مجلس الأمة لم تتقدَّم لتعديل القانون طيلة «شهور العسل» مع هذا المجلس، وقد انتظرت أن يبادر آخرون بالتقدم إلى المحكمة الدستورية، وكأن لسان حالها يردد «أنا ماليش دعوة».. وذلك من جراء العقلية الداعشية التي تمارس علينا والسكوت عنها الذي خيَّم طوال سنوات.
حالنا اليوم
اليوم أمامنا من جراء الفكر الداعشي وزير يشكو الفاقة المالية ووزير آخر يُمني النفس بتوفير أموال، وهو بانتظار قرار المحكمة الدستورية.. عندما نتحدث عن هذه الصور والأوضاع التي نعيشها ومحاربة الأفكار وملاحقة المغرّدين على شبهات في النوايا، فإننا لا نريد القفز على حالة زمنية أو مكانية، بل نريد فقط العودة إلى ما كانت عليه الكويت منذ عقود مضت.. لم يكن فيها هذا التزمُّت، ولم يكن فيها هذا الغلو والتطرف، ولم تكن تعرف كثيرا من المظاهر التي بتنا نشاهدها اليوم، لكن الفكر الداعشي تمدد بالأموال والرعاية والمكانة الاجتماعية والمقار وغيرها من مراكز التبرع والمساعدات، لنصل إلى ما وصلنا إليه من حال يشكو منه البعض.. لهذا كله فـ»داعش» منا وفينا، وقد عملنا طوال عقدين أو أكثر على توفير البيئة لتمدده وانتشار أفكاره.