
كشف إصدار من مركز الخليج لسياسات التنمية، أن الأوضاع في دول مجلس التعاون قد وصلت إلى مرحلة حرجة، بدأت تعتمد فيها الحكومات بشكل متصاعد على الخيارات الأمنية، في مواجهة مشاكل متصاعدة على الجانب السياسي، مقترنة بصعوبات اقتصادية تدل على عدم استدامة النمط التنموي الحالي.
فعلى المستوى المحلي، لا يزال الخيار الأمني يشكل الاستراتيجية المتبعة في الإمارات وعمان والبحرين والسعودية، ولوحظ أيضا تصاعد وتيرته في الكويت. أما على المستوى الإقليمي، فتفجر الأوضاع على كل حدود دول المجلس، سواء أكانت في سوريا أم العراق أم اليمن، والعلاقة العدائية المتبادلة مع إيران، يؤكد أن التعاطي الأمني هو الخيار السائد.
وبيَّن الإصدار أنه بات صعباً أن تستمر دول المجلس على نفس النهج الحالي في نفقات الميزانية، واستهلاك النفط، والنمو السكاني، خصوصاً في ظل الارتفاع المستمر في المصروفات الحكومية وتذبذب أسعار النفط في الأسواق العالمية.
وركز إصدار «الثابت والمتحول 2015: الخليج والآخر» على تحليل علاقات مجتمعات الخليج مع الأطراف الفاعلة في تحديد مصيرها، سواء أكانت في الداخل، كالعلاقة مع الوافدين، أم في الخارج، بما فيها دول الجوار والقوى الغربية.
ويقول مدير مركز الخليج لسياسات التنمية عمر الشهابي: «لقد أصبح هذا الموضوع ملحاً اليوم، ولاسيما أن الخليج والعالم العربي الأوسع يتعاطى مع مرحلة متفجرة سياسياً، في ظل تصاعد وتيرة التغيّرات داخلياً، وفي المحيط الأوسع، ما يحتم فهم طبيعة العلاقات بين مجتمعات الخليج والقوى الفاعلة الأخرى في هذه المرحلة».
رصد منهجي
وتضمن الإصدار، أيضاً، رصداً منهجياً لحالات التطبيع مع الكيان الصهيوني في دول المجلس، في محاولة لإعادة البوصلة نحو القضية المحورية في العالم العربي «فلسطين»، حيث وجدت الدراسة، أن هناك بوادر مقلقة للتطبيع على المستوى الرسمي والاقتصادي.
وعلى المنوال نفسه، خصص الإصدار ملفاً معمقاً لتحليل العلاقة التاريخية ما بين السعودية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وقد بيّنت الدراسة، أن للطرفين أولويات مختلفة عند التعاطي مع القضية الفلسطينية، حيث إن السعودية تعد «المبادرة العربية» التي تدعو إلى السلام مع الكيان الصهيوني، هي مرجعيتها، فيما تواصل «حماس» في موقفها الرافض من الاعتراف بالكيان.
أما في الشأن السكاني، فأشار الإصدار إلى أن إجمالي عدد سكان المنطقة وصل إلى 51 مليون شخص في عام 2014، 52 في المائة منهم مواطنون و48 في المائة وافدون، وإن استمرت وتيرة النمو الحالية، فسيصل إجمالي عدد سكان دول المجلس إلى 100 مليون بحلول عام 2030، 60 في المائة منهم من الوافدين. وقد قام الإصدار بدراسة «حملة تصحيح أوضاع العمالة الوافدة في السعودية»، كأول جهد رسمي من نوعه في الألفية الجديدة للتعاطي مع الخلل السكاني المتفاقم في دول المجلس.
وتستعرض «الطليعة» عبر حلقات الفصل الخاص، الذي حمل عنوان «الواقع والمأمول: رصد لحالات التطبيع في دول مجلس التعاون وفرص المقاطعة وسحب الاستثمارات»، الذي ينقسم بدوره إلى جزأين؛ الأول يرصد التطبيع بين دول مجلس التعاون الخليجي ودولة الاحتلال، ويبحث في التوجه السياسي الرسمي حيال سلطة الاحتلال والوضع الراهن في فلسطين، فيما يسلّط الثاني الضوء على خمس شركات متورطة في جرائم الاحتلال، وهي ذات وجود كثيف في سوق الخليج، للفت الانتباه إلى خطورة دورها في دعم الاحتلال في فلسطين، على أمل استغلال هذا الوجود في الخليج للضغط عليها، من أجل إنهاء تعاملها مع الاحتلال.
نداء إلى مؤسسات المجتمع المدني
وتختتم الورقة بدعوة لتبنّي نداء مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (Boycott, Divestment, Sanctions)، وهو نداء وجد صدى دولياً، لكنه لا يزال مغموراً في العالم العربي بشكل عام، ودول مجلس التعاون بشكل خاص.
الجزء الأول:
الواقع: رصد التطبيع في دول مجلس التعاون منذ حرب غزة الأولى
التطبيع هو تحويل أمر غير طبيعي إلى أمر طبيعي بشكل إجباري أو بجهد كبير. والتطبيع، في سياق القضية الفلسطينية، هو السعي إلى تحويل إسرائيل إلى كيان طبيعي في قلب الوطن العربي.
وغني عن القول إن تحويل إسرائيل إلى كيان طبيعي يعني، تلقائياً، تحويل المقاومة إلى تصرف غير طبيعي، إذ كيف يكون من المقبول أن تحارب ما تم تطبيعه وصار طبيعياً؟
أشكال خطيرة للتطبيع
ومنذ انتهاء حرب أكتوبر 1973، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني وما تلاها، بدأ التطبيع يأخذ أشكالاً خطيرة ومؤسساتية وعلنية. ولكن لعل التهديد التطبيعي الأخطر يتمثّل في ما عرف بـ «مبادرة السلام العربية»، التي طُرحت، للمرة الأولى، في القمة العربية التي انعقدت في مدينة فاس المغربية عام 1982، حيث طرح المبادرة يومها الملك فهد (ولي العهد آنذاك) وتبنتها الدول الأعضاء، وهي المبادرة نفسها التي أعاد طرحها الملك عبدالله (ولي العهد حينها) في القمة العربية في بيروت عام 2002 وتبنتها الدول الأعضاء أيضاً، وصارت ركيزة أساسية في السياسة العربية الرسمية تجاه القضية الفلسطينية. وتنص المبادرة على التزام إسرائيل بالمطلوب منها في قرارات الأمم المتحدة فقط (الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 وعودة اللاجئين)، مقابل علاقات رسمية كاملة بينها وبين كل الدول العربية. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن التصريحات العربية الرسمية تتضارب في شكل كبير بخصوص ما هو مطلوب من إسرائيل، فكثير من التصريحات حول الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 يستثني غزة والجولان السوري المحتل تماماً، ويقتصر على الضفة الغربية، كما أن مسألة اللاجئين يتم إغفالها علناً من جل النقاشات الرسمية حول المبادرة، أو يجري إفراغها من مضمونها عبر استعمال عبارات، مثل «حل عادل لقضية اللاجئين» عوضاً عن استعمال مصطلح «حق العودة».
وقد صرَّح الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، بأن المبادرة، في صيغتها الأصلية عام 2002، لم تأتِ على ذكر حق العودة أصلاً، وإنما تم إيراده بطلب من لحود خلال قمة بيروت، كونه رئيس البلد المستضيف للقمة، في ظل رفض السعودية ودول عربية أخرى وفق تعبيره، والأمر الذي ألمحت إليه صحيفة الشرق الأوسط السعودية في تغطيتها لتلك القمة. وعلى الرغم من إصرار إسرائيل على الرفض العلني لكلا الشرطين، فإن جهود التطبيع لم تتوقف، لا سراً ولا علانيةً، فضلاً على أن تؤثر في تغيير المبادرة أو على الأقل تجميدها.
مرحلة ما بعد حرب غزة الأولى
ستركز هذه الورقة على مرحلة ما بعد حرب غزة الأولى، التي شنّها الكيان الصهيوني في ديسمبر 2008، والتي شكلت نقطة تحول في مسار القضية الفلسطينية، ومن أسباب تخصيص هذه المرحلة بالبحث أنها شهدت تكرار تحذيرات حول موت مبادرة السلام العربية، وأنها لن تبقى على الطاولة طويلاً، وتكرار التصريحات بموت حل الدولتين وانتهاء فرص السلام، وتكرّر ذلك، في تلك الفترة، على لسان أكثر من مسؤول عربي، من بينهم عمرو موسى (أمين عام الجامعة الدول العربية آنذاك)، والملك عبدالله بن عبدالعزيز، والرئيسان عمر البشير وبشار الأسد، وكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات.
فقد صرَّح موسى، على سبيل المثال، في 2009، بأن عملية السلام «ماتت منذ فترة، لأنها كانت عبارة عن عملية سلام تدور في حلقات مفرغة، وإذا تقدمنا خطوة نجد أمامنا سداً منيعاً هو الموقف الإسرائيلي، وما يتبعه من تأخير ومماطلة من دون رغبة حقيقية في السلام»، معتبراً أن عام 2009 هو آخر عام لمبادرة السلام العربية.
ورغم انتهاء عام 2009 واستمرار إسرائيل في المماطلة، لم يُسجّل أي تغيير يذكر في الموقف الرسمي العربي من المبادرة، بل إن موسى نفسه طالب حركة حماس في 2014 بالاعتراف بإسرائيل وقبول مبادرة السلام العربية التي كان قد أعلن انتهاء صلاحيتها قبل خمس سنوات.
قمتان عربيتان
وعقدت قمتان عربيتان بعد الهجوم على غزة في ديسمبر 2008 في الدوحة والكويت، وقد شهدت قمة الدوحة إعلان وقف التطبيع بين إسرائيل وكلٍ من قطر وموريتانيا، وتضمّنت المطالبة بتعليق مبادرة السلام، لكن القمة الأخرى التي استضافتها الكويت، والتي عُقدت في غضون ساعات بعد نهاية الحرب، خرجت بنتائج معاكسة، فقد صرَّح أمير الكويت، بأن «المبادرة تمثل أساس الموقف العربي».
وبعدها بأيام، نشر رئيس المخابرات السعودية السابق تركي الفيصل مقالاً في صحيفة الفاينانشال تايمز حثّ فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما على تأييد المبادرة، ولم تمضِ سوى أشهر قليلة، حتى كان المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل يصرح بأن السعودية ودولاً عربية أخرى قد ترفض التطبيع في العلن، لكنها تقول شيئاً آخر في السر وفق تعبيره.
وبعد الحرب ببضعة أشهر، تحدث ملك الأردن عبدالله الثاني عن خطة سلام تتضمن اعتراف 57 دولة إسلامية بإسرائيل، ما يوسع نطاق المبادرة بشكل غير مسبوق، وبعدها بأيام قليلة، جاء الرد الإسرائيلي الرافض لكل هذه الاقتراحات على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الذي رأى أنه «لا جدوى من نشر مبادرة سلام أخرى»، كما صرح في مناسبة أخرى، بأن مبادرات العرب «وصفة لتدمير إسرائيل».
وسُجّلت تصريحات مماثلة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو (خصوصاً خطابه الشهير في جامعة بار إيلان في يونيو 2009) ولكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في دولة الاحتلال، ما يشير إلى أن إسرائيل مستمرة في نهجها الرافض لهذه المبادرات.
ورغم ذلك، بقيت السياسات العربية على المسار نفسه من إبداء الاستعداد للتطبيع، بينما واصلت إسرائيل، في المقابل، تقديم الحروب والمجازر والمستوطنات والاعتقالات.