محمد الغربللي:
أصبحت مدينة جنيف محج العرب، ليس للسياحة وحدها، بل للمفاوضات ما بين الأطراف المتصارعة.. بدايتها مع الأطراف السورية المتقاتلة منذ سنوات، حيث دعتها جنيف لإيجاد حل لإيقاف الدم المسال يومياً والتدمير لكل شيء على سطح الأرض، من بنى تحتية لآثار إنسانية وتهجير سكان بالملايين.. الجلسات التي عُقدت ضمَّت الفرقاء، ولكن كما أتوا في ملفاتهم التي يحملوها عادوا واستمر دوران الدولاب المُميت.
هذه المرة وصل الفرقاء من اليمن، الذي كان ينعت بالسعيد، وصلوا بعد تعطل لوجستي، كما يُقال، وصلوا على أصوات الانفجارات في صنعاء وصعدة، ودوي الرصاص في أكثر من مدينة، والأدخنة المتصاعدة في سماء اليمن الجميل، علّهم يجدون حلاً لخلافات تصاعدت، لتصل إلى الحالة الدموية الراهنة، والقتل والتشريد، وأيضاً ضرب البنى التحتية، بما في ذلك آثار من أزمنة سحيقة.. الفرقاء يبحثون أيضاً عن حلّ، بعد أن ضاقت يمنهم باتساعها، بإيجاد حلّ ما.
مَن القادم الآخر من الفرقاء العرب الجدد إلى جنيف؟ هل سيأتون من ليبيا أم العراق أم من دولة ليست بالحسبان؟ الله يعلم ويلطف بالأحوال..
ما معنى ذهاب أطراف عربية إلى جنيف لإيجاد حلول ما، ولإيقاف حروب مشتعلة؟ الذهاب إلى جنيف يحمل عدة معاني؛ أولها انعدام القنوات الديمقراطية الصحيحة والراسخة في تلك الدول التي لا يمكن إيجاد الحلول السلمية لأي مشكلة كانت إلا فيها، غياب الديمقراطية، يعني أن القوة والممارسات الأمنية هي السبيل الوحيد لفرض الحلول والسير باتجاه علاج المشاكل، لكن عندما تسود القوة والممارسات الأمنية يتحوَّل المجتمع إلى ساحة صراع أقرب للتوحش الإنساني، حيث يتم استخدام العقل، من أجل القتل باستخدام كافة الأسلحة بأنواعها.
التوجه إلى جنيف يعني تلاشي الترابط العربي لإيجاد حلول عربية للقضايا التي تحل في هذا البلد أو ذاك، حرب أيلول عام 1970، وعلى الرغم من التجاذبات الإقليمية، كانت القمة العربية الطارئة كفيلة بإيقاف الرصاص وإيجاد حل لما جرى في الأردن، منذ ما بعد عام 1978 تلاشى دور الجامعة العربية، كملتقى عربي، وأصبحت في النهاية أداة طيعة لهذا الطرف أو ذاك، ولعل هذا الوضع كان بارزا في معالجة الأزمة السورية في بدايتها، عندما تم تجيير الجامعة العربية إلى طرف يسعى لتصعيد الحرب الداخلية في سوريا بأي صورة كانت، وهكذا فقدت الجامعة العربية من جراء هيمنة هذا الطرف عليها أي دور في إيجاد حل عربي جماعي حيال قضايا الأمة المتشرذمة داخلياً، فانعكس هذا التشرذم على مستوى العلاقات العربية – العربية.
تركت قضية الشعب الفلسطيني كأولوية، ولم يعد ينظر لإسرائيل على أنها دولة عدوة، بل الأدهى، هي خطوات التطبيع الخجولة أو المفضوحة التي تقوم بها بعض الدول، هذا التصارع الداخلي انعكس على الخارج، وغدا تصارعا مكتوما ما بين الدول، تصارعا داخليا مذهبيا وطائفيا وقوميات متناثرة، ولم تعد الجامعة تجمع، بل غدت أداة للتفرقة والتناحر، وهكذا غدت مدينة جنيف محجا ومكانا لمحاولات إيقاف الدم العربي المسال ذاتياً، وتزداد «سيولة الدم» في غياب الديمقراطية والكرامة والعيش واحترام حقوق الإنسان، لا يوجد طريق للحل، إلا بتكريس هذه المبادئ الإنسانية، وبغيرها سنستمر بذات الطريق الدموي وبسفرات دائمة لجنيف أو لعواصم أوروبية أخرى، لإيقاف سيل دمائنا.