
كتب د.عبدالله الجسمي:
انتهيت من هذه الدراسة منذ ما يقارب العام ونصف العام، لكن حالت كثرة الانشغالات عن نشرها في وقت مبكر.. ومع إعادة قراءتها أخيرا، وطلب الرأي من بعض الشخصيات الوطنية والثقافية، الذين أبدوا، مشكورين، عدداً من الملاحظات عليها، إلا أنني اكتفيت بملاحظات محدودة جداً لم تمس النص الأصلي.
وعلى الرغم من أن الدراسة تتحدَّث عن الحركة الوطنية الكويتية، وواقع المجتمع الكويتي، فإن هناك الكثير من أفكارها يتماشى مع الواقع السائد في المجتمع العربي، وإشكالياته السياسية والفكرية والثقافية، فالكويت جزء من الوطن العربي، وما يجرى فيه ينعكس عليها، نظراً للتشابه الكبير في الواقع الاجتماعي والثقافي.
وتتضمَّن الدراسة انتقادات للطريقة التي فُهم بها مفهوم «القومية» في الفترة التي ازدهرت فيها الحركة القومية العربية، وكذلك انتقادات للأيديولوجية بشكل عام، وآمل ألا يُقابل ذلك بردّ انفعالي أو عاطفي، لمن يرغب في الرد، إن وجد، على مضمون الدراسة، بل المطلوب رد عقلاني ومتجرد من الأهواء والعواطف والأدلجة، حتى يمكن الوصول إلى تصوُّرات وأفكار أفضل، لمصلحة التيار الوطني والمنتمين إليه.
في الحلقة الأخيرة من دراسته، يتطرَّق د.عبدالله الجسمي إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي الثقافة المدنية، ومطالبته للقوى الوطنية لفهم أكبر لطبيعة الديمقراطية المنشودة، فيقول:
يقود هذا الأمر إلى مسألة مهمة تتعلق بتركيز القوى الوطنية على العمل السياسي، وإهمال الجوانب الفكرية والثقافية من جهة، وإلى ضرورة فهم طبيعة الديمقراطية التي ننشد الوصول إليها، وتحقيقها من جهة أخرى.
تجمعات انتخابية
فبالنسبة للنقطة الأولى، نجد أن تركيز الحركة الوطنية وقواها على الجانب السياسي فقط، ساهم بتراجع ثقافة المجتمع وطرق تفكيره، فالقوى الوطنية أصبحت تجمعات انتخابية، جل همّها خوض الانتخابات البرلمانية، وكأن العمل الوطني انحصر فقط في البرلمان، وتم إهمال الجوانب الأخرى الأساسية، التي تمثل البنية الحاضنة لقيم الحرية والمساواة والعدالة.. إلخ، وكذلك طرق التفكير، أي البيئة الثقافية التي تحتضن قيم التحديث والتنوير، حيث لا نرى وجوداً لبرنامج ثقافي وفكري لكوادر هذه التجمعات، يعمل على بنائها، فكريا وثقافياً، ويؤهلها لخوض العمل السياسي، وفق برامج وأطر ثقافية وفكرية معينة.
إذا نظرنا، تاريخياً، إلى طبيعة النخبة المحلية، التي طالبت بالإصلاح منذ بدايات القرن العشرين، سنجد أنها كانت نخبة مثقفة، أي جمعت بين الثقافة والسياسة، واستمر هذا الوضع فترة طويلة، توجت بالوصول للنظام الدستوري، وحتى نهاية السبعينات، وقد تم إهمال الجانب الفكري والثقافي لاحقاً، حتى وصل مجتمعنا للواقع الثقافي الحالي، ولن تستقيم الأمور في صالح العمل الوطني، في حال الاستمرار بإهمال الجوانب الفكرية والثقافية.
تغيير ثقافي
إن التغيير المطلوب في المجتمع إذن، هو تغيير ثقافي وليس سياسيا، نظرا لإقامة النظام السياسي الديمقراطي وفق دستور 1962، الذي يكفل العديد من الحريات والتعددية الفكرية والسياسية، وغيرها من حقوق، وتمثل الحركة الوطنية الكويتية أكثر الأطراف تمسكاً به ودفاعاً عنه، أي أن النظام الديمقراطي وآلياته وأدواته قائمة، والمطلوب هو تفعيل هذه الآليات، من خلال الممارسات القائمة على قيم الديمقراطية الحقّة، التي تدعم تلك الآليات، وتحقق تطبيق، فعلي للديمقراطية والأهداف القائمة من ورائها.
أما المسألة الأخرى، وتتعلق بكيفية فهم الديمقراطية، فإن الحركة الوطنية ترفع شعار الديمقراطية، كأحد أبرز وأهم أهدافها، فهي الوسيلة التي يمكن من خلالها تحقيق البرامج السياسية والوصول إلى الإصلاح المنشود، ويرتبط فهم الديمقراطية، بلا شك، بالوجهة الفكرية، إذ يجب أن نفهم الديمقراطية على أنها «ثقافة»، وأشدد على كلمة «ثقافة»، فهي ليست القيام بعملية الاقتراع والوصول للبرلمان أو التعبير عن الرأي فقط، أو حتى إنها منظومة حقوقية، كما إنها ليست حُكم الشعب للشعب، أو غيره من التعريفات الأخرى.
ثقافة ديمقراطية
لقد تجاوز الواقع الإنساني العالمي الأمور وتعريفات الديمقراطية السابقة، فالديمقراطية اليوم أصبحت ثقافة تتضمن قيماً وسلوكاً وممارسات مرتبطة بالتكوين الفكري والثقافي للفرد وعلاقته بالآخرين، والمجتمع وهيئاته والدولة ومؤسساتها، فلا تتحقق الديمقراطية، إلا في ظل وجود أفراد ديمقراطيين يحملون ثقافة الديمقراطية، لا ثقافة مغايرة لها، أو يسعون لوأدها، كما هي الحال عند العديد من القوى الأصولية وغيرها، التي تستخدم الديمقراطية كوسيلة للوصول للبرلمان أو الحُكم، ومن ثم تحقيق أهدافها، بالإنهاء على المظاهر الديمقراطية المختلفة.
لا يمكن للممارسة الديمقراطية النجاح وتحقيق الأهداف المرجوة منها، إلا من خلال وجود البيئة الثقافية التي تحتضن قيم الديمقراطية وممارساتها، وبالتالي، فالديمقراطية ممارسة وسلوك ثقافي، وليست تعريفات سياسية، أو عمل في البرلمان فقط، وعليه، لابد أن تكون الثقافة والتغيير الثقافي في صلب التوجه الفكري للحركة الوطنية الكويتية، من أجل إنجاح المشروع السياسي المحلي المستقل، لبناء دولة ديمقراطية ومجتمع مدني.
فالحل يقتضي تبني الثقافة المدنية ونشرها بين المواطنين، من أجل إنجاح المشروع التحديثي للمجتمع، والقضاء على الظواهر السلبية الناتجة عن غيابها.
الثقافة المدنية
تعد الثقافة المدنية من بين أفضل ما أنتجه العقل الإنساني في مسيرته الحضارية من أفكار وقيم، فهي تمثل ذروة التحديث الثقافي الذي أنجزه الفلاسفة والمفكرون والمثقفون، بعد التحولات التي جرت في أوروبا من العصر الوسيط إلى عصر النهضة فالحديث.
فالثقافة المدنية تمثل الثقافة الجديدة التي أنتجها الإنسان، وساهم بصياغة مفاهيمها وقيمها، بعد أن قطع اعتماده المباشر مع الطبيعة، والذي استمر آلاف السنين.
إنها ثقافة المدينة الصناعية والتجارية، حيث استطاع الإنسان تصنيع حاجاته، بعد أن كان يعتمد على الطبيعة في كل شيء، ودشن مرحلة لنظام اقتصادي جديد، وهو الرأسمالية، متجاوزاً بذلك النظام الإقطاعي، الذي مثل الريف عصب اقتصاده.
وتتميَّز الثقافة المدنية، بقيامها على أسس عقلانية وموضوعية، لا ذاتية صرفة، وبالتالي تكون ثقافة منفتحة، وليست منغلقة على نفسها، ولها قابلية للتجديد والتطور، تتخللها مظاهر التفكير العقلاني المتجرد من الأفكار الذاتية أو الأيديولوجية، وترتكز على التفكير العلمي، ويتسم تعاملها مع المشكلات والقضايا بطريقة واقعية وعلمية.
جزء من الديمقراطية
والثقافة المدنية تشكلت مع طبيعة النظام الديمقراطي، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منه، بل ربما لا تستقيم الأمور من دونها، فهي تحتوي نظاماً موضوعياً للحقوق والواجبات، التي يتمتع بها الفرد في المجتمع وتحقق كذلك مبدأ تكافؤ الفرص، ورفض التمييز بين المواطنين والمساواة أمام القانون وفي الحقوق بشكل عام، بغض النظر عن الانتماءات الاجتماعية أو الفكرية للأفراد.
والثقافة المدنية تتجاوز مثالب الثقافات التقليدية التي يأخذ معظمها الطابع القطعي في التفكير والفئوي للتمييز بين الأفراد، فهي تحقق تعايش مكونات المجتمع المختلفة، وتقف ضد مظاهر الإقصاء والتمييز بين المواطنين، وتحمي حق الاختلاف والتعدد الديني والمذهبي والعرقي والثقافي، وهناك الكثير ما يمكن قوله عن الثقافة المدنية التي تمثل قيمها ومفاهيمها المضمون الفكري المتطور الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية، بعد الدخول في الحضارة العلمية الحديثة التي غيَّرت واقع المجتمع الإنساني بشكل نوعي.
ليست حلا سحريا
وتجدر الإشارة إلى أن انتشار قيم الثقافة المدنية ليس حلاً سحرياً لمشكلات المجتمع، لكنها تمثل الأرضية التي تخلق حالة من الانسجام والتعايش بين مكوناته والاستقرار الذي يمهد تطوره وتقدمه. والثقافة المدنية، بقيمها، التي تتجاوز أي شكل من أشكال الفئوية، تصلح لأن تكون رابطاً بين المواطنين والمكونات الاجتماعية لأي مجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية والاجتماعية، وتكون في الوقت نفسه الثقافة التي لها اليد العليا على الثقافات الفئوية، وهي شئنا أم أبينا لابد أن تنتشر بين الأجيال المختلفة في المجتمع.
مدخل حقيقي
إن الثقافة المدنية يجب أن تكون الركيزة الأهم للوجهة الفكرية للحركة الوطنية الكويتية في المرحلة الحالية والمستقبل المنظور، فهي تقف على رأس الأولويات، كونها تمثل المدخل الحقيقي لتحديث المجتمع، ثقافياً، وتمهد للقضاء على أشكال التفرقة المعروفة، وتخلق واقعاً ثقافياً جديداً يجعل من مجتمعنا جزءاً من الحضارة الإنسانية والمدنية الحديثة، ولا نعيش في واقع ثقافي موبوء بالأوهام والخرافات والخزعبلات، وكأننا نعيش في عالم آخر لا يعنينا فيه ما يجري حولنا من تطورات.
ولا شك أن العمل على نشر الثقافة المدنية مسألة ليست بالهينة.. فعلى الرغم من أن هذه الثقافة لا تمس المعتقدات الفكرية والدينية، فإن عملية تغيير الثقافة الدارجة تحتاج إلى وقت ودراسة تحليلية لواقعنا الثقافي والفكري، ومن ثم إيجاد الأدوات والمناهج العقلية والنقدية المناسبة، للعمل على تغيير المفاهيم والقيم السائدة، وهنا يأتي دور النخبة المفكرة في المجتمع، التي لابد أن تعمل وفق رؤية واضحة لأهدافها وكيفية تحقيقها، وتعمل قيادات العمل الوطني على تكريس جزء كبير من جهودها ووقتها للجوانب الفكرية والثقافية، لأنها مفتاح حل تردي الواقع السياسي، ولن تستقيم الأمور من دون إحداث التغيير الفكري والثقافي.
كلمة أخيرة
إن كانت هناك كلمة أخيرة في هذه الدراسة، فهي نصيحة توجَّه لبعض المجاميع السياسية الوطنية، بالابتعاد عن الأيديولوجيا، أو على الأقل تناولها بطريقة عقلانية ونقدية وتبيان ما يمكن أخذه منها، وما يمكن استبعاده، أو تجزئة أفكارها وعدم أخذها بصورة شمولية، فالواقع ليس أحداثاً وقوالب جاهزة تتحرك بطريقة آلية، بل تتجاذبه الأحداث والصراعات، ويمكن لحدث، مثلا، أن يغير مسيرة تاريخ شعب ما، أو يؤثر فيها، كما حدث، مثلاً، في غزو نظام صدام للكويت، ولا تقع في المطب الذي وقعت فيه سابقاً العديد من المجاميع الوطنية والديمقراطية في الفهم العقائدي الجامد للأيديولوجيا، وأن تحرر العقل من أي سلطة تهيمن عليه، أياً كان نوعها، فهذا هو الطريق السليم لأحداث التغيير، فالعقل الحُر هو العقل المبدع القادر على التعامل مع الواقع ومشكلاته والتغلب عليها وتوجيه الإنسان والمجتمع بشكل عام إلى طريق التجديد والمستقبل الواعد.