
كتب محمد جاد:
كيف يرى الأصوليون المجتمع بعد مرور أكثر من 1400 سنة على نشأة الإسلام السياسي؟
فعل الهجرة نفسه هو ما يُشبه تأسيس مكان وسنّ أحكام تضبط علاقات أفراده نطلق عليه الآن مجازاً دولة.
يحاول د.خالد زيادة، السفير اللبناني لدى مصر، والمندوب الدائم بجامعة الدول العربية، أن يجيب عن هذا التساؤل، من خلال مؤلفه المعنون بـ «الخسيس والنفيس.. الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية»، والصادر أخيرا في طبعة جديدة مُزيّدَة عن الدار المصرية اللبنانية في 140 صفحة من القطع المتوسط.
يُشير المؤلف إلى أن التوتر في العلاقة بين الشريعة والقائمين عليها والسُلطة من ناحية أخرى بدأت منذ توسع الكيان الإسلامي خارج إطار حدوده ــ لم يكن اتخذ شكل الدولة بعد – فالدولة كانت تجبي الضريبة وتحمي الأمن وتشرف على حكم المدينة، ومع ذلك، فإن الرقابة في المدينة كانت محط تنازع الفقهاء من جهة، والأمراء من جهة أخرى، كان المحتسب يتبع لسلطة القاضي، وقد أنيطت به مهمة مراقبة الأسواق، تبعا للعمل بالمعروف والنهي عن المنكر، أي العمل والأخلاق.. أما ولي الشرطة، فيتبع الأمير، أي الحاكم، ويراقب الأمن والأسوار.. هذه الازدواجية كانت آخذة بالبروز منذ بداية تكوُّن أجهزة الدول العربية في القرن الأول الهجري.
وقد تنازع الرقابة على المدينة صاحب الشرطة والمحتسب، كما يقول المؤلف: «إن تداخلاً محتملاً وقع بين عمل الشرطة من جهة، ووظائف غيرهم من أصحاب الولايات من جهة أخرى، وبشكل خاص مع الأمراء والحكام والقضاة، فكانوا ينفذون أوامرهم، إلا أنهم يقاسمونهم الصلاحيات أحياناً».
هذه الازدواجية في بداية تكون أجهزة الدولة الإسلامية أدَّت إلى ظهور سلطتين؛ دينية وسياسية، وقد بقيت المدينة تمثل فضاء تشريعيا خاضعا لسلطة الفقهاء في الميراث وحياة العمل في الأسواق، وتنظيم مسائل العمران وشؤون الجماعات الدينية، في حين أخذت الدولة تطور أجهزتها، باعتمادها على كتابها الإداريين ذوي الأصول الفارسية الذين صاغوا دواوينها ومؤسساتها.
الخسيس والنفيس
يُشير العنوان إلى تقسيم الفئات داخل المدينة الإسلامية إلى فئات خسيسة وأخرى نفيسة، وهي مسميات توضح ما كانت تحياه هذه الأفكار من تمايز طبقي حاد، رغم أنها تدير شؤونها وفق منصة خطاب ديني اعتمد المساواة بين الناس، جاعلاً شرط التقوى هو الفيصل.
ففي المدينة الإسلامية، هناك «مجموعات من الأفراد تشكل بدورها عدة فئات، نُظر إليها نظرة احتقار، واعتُبر أفرادها على جانب من الخِسة والوضاعة والرذالة، وهم: أصحاب المهن الوضيعة – المتكسبون والمتسولون – أهل البلايا والعاهات». أما الفئات النفيسة، التي تحتل موقعاً مميزاً في المدينة الإسلامية، فهي الفئات التي تضم رجال السلطة، رجال الدين، التجار، الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، حيث طيلة هذه القرون لم يتخلخل هذا المفهوم في المجتمعات العربية، إلا ظاهرياً فقط، فمنشأ الكيان ذي الصبغة الإسلامية كان يضم جميع هؤلاء بين أفراده من النخبة، سواء عند تأسيس المدينة المنورة، على سبيل المثال، أو بعد ذلك، في ما يُسمى مجلس شورى المسلمين.
المدينة الحديثة
يُشير الكاتب إلى أن المدينة التقليدية واجهت التحدي الذي مثله قيام مؤسسات وهيئات تمثيلية، مثل مجالس الإدارة والبلديات ونشوء النقابات التي ترتبط جميعها بالقانون الذي تجسده الدولة، ولم تعد الدولة ممثلة في السلطان أو العاهل أو الوالي، ولكنها أصبحت مفهوما مجردا تفرض القوانين على الذين اكتسبوا صفة المواطنين، بعد أن ارتسمت معالم الدولة جغرافيا، وتماهى الوطن بالدولة، كما تماهى الفرد بالوطن، الذي هو مثال أو فكرة تتجاوز الجماعات والطوائف والعشائر والاثنيات، وبذلك انتصرت الدولة على المدينة، حيث تم انتقال أنماط العمران والتجارة والفنون، فنشأ في كل مدينة وسط حديث، فإذا كان الوسط التقليدي للمدينة يتمثل في المسجد الجامع والسوق، فإن الوسط الحديث تتوسطه السرايا الحكومي أو البلدي رمز السلطة الحديثة، إضافة إلى المباني الحديثة والمقاهي والمسارح، وإزاء الحارات الداخلية نشأت الشوارع والمباني المستقلة والوكالات والمصارف والصحف ومكاتب المحاماة وعيادات الأطباء.. رموز القانون والعلم الحديث.
من ناحية أخرى، المؤسسة الفقهية التقليدية التي لم تواكب هذه التطورات، التي أفقدتها جلّ صلاحياتها ونفوذها، احتفظت بإمساكها بالأحوال الشخصية لأبناء المدينة في الميراث والزواج والطلاق أو في إقامة الشعائر، وقد احتفظت المدينة القديمة بالرموز الدينية التي تعبر عن ذاتها في أيام الجمعة والمناسبات الدينية، وبقيت السوق حية، كشاهدة على التراث، باحتضانها المعالم التي تعبر عن حيوية المدينة التاريخية والدينية.
النموذج الغربي ومحاولات الردة
يوضح المؤلف أن المجتمعات الإسلامية في بلاد الإسلام قطعت شوطا بعيدا في تبني الحداثة، ليس بفضل القوانين، إنما بسبب جاذبية النموذج الغربي، وتفوقه في مجال الخدمات، فضلا عن تأثير الأفكار، التي أصبحت سمة العصر في النصف الثاني في القرن التاسع عشر، والتي أضحت تتجلى في الآداب والفنون، فانزوت المدينة التقليدية، ليس كحيز مكاني فحسب، ولكن كنمط وطريقة للعيش.
يبدو هنا أن أفكار تنظيم الدولة من دواوين وإدارات، وما شابه، كانت دائماً مستوردة، فلم يكن العقل العربي يعي هذه الأشياء، لا توجد كلمة دولة في خيال العربي، وقد بدأ هذا الاستيراد من بلاد فارس/إيران، وحتى الدول الغربية، كما يقول المؤلف.
وما كان من التحديث الأخير إلا وأن خلق حالة تشبه الزلزال للتقاليد الفقهية والمؤسسات الدينية، والتي لم تجد ضالتها، إلا من خلال تحوّل الموروث الديني والفقهي عبر حركات إصلاحية وأصولية، تريد أن تحيي السلف، وإخضاع الأفراد والمجتمع للشروط التي وضعها الفقهاء لتنظيم أحوال المجتمع ومراقبته «إذا كانت الدولة الحديثة هي التي تجاوزت المدينة وألحقتها بقوانينها، فإن حركات الإسلام المعاصر ترفع شعار الدولة الإسلامية، وهو مفهوم حديث نتج عن كون الصراع هو شكل النظام السياسي الذي تحتضنه الدولة».
النظام الإسلامي في شكله الجديد
يرى المؤلف أن النظام الإسلامي، الذي تقترحه الحركات الإسلامية، يدل على فهم خاطئ تماما لفكرة الدولة الإسلامية، فهو نظام يقوم على «مبدأ الحسبة»، على الرغم من أن المحتسب لم يكن يملك أي صلاحيات في إقامة الحدود، إلا أن الحسبة، وفق الإسلاميين، تصبح النظام الوحيد الذي تملكه الدولة، وهو نظام يقوم على النفي، نفي كل ما قدمته الحداثة من أفكار وتراكم في الخبرات والعادات، النفي لكل ما هو مختلف.