
كتب د.عبدالله الجسمي:
انتهيت من هذه الدراسة منذ ما يقارب العام ونصف العام، لكن حالت كثرة الانشغالات عن نشرها في وقت مبكر.. ومع إعادة قراءتها أخيرا، وطلب الرأي من بعض الشخصيات الوطنية والثقافية، الذين أبدوا، مشكورين، عدداً من الملاحظات عليها، إلا أنني اكتفيت بملاحظات محدودة جداً لم تمس النص الأصلي.
وعلى الرغم من أن الدراسة تتحدَّث عن الحركة الوطنية الكويتية، وواقع المجتمع الكويتي، فإن هناك الكثير من أفكارها يتماشى مع الواقع السائد في المجتمع العربي، وإشكالياته السياسية والفكرية والثقافية، فالكويت جزء من الوطن العربي، وما يجرى فيه ينعكس عليها، نظراً للتشابه الكبير في الواقع الاجتماعي والثقافي.

وتتضمَّن الدراسة انتقادات للطريقة التي فُهم بها مفهوم «القومية» في الفترة التي ازدهرت فيها الحركة القومية العربية، وكذلك انتقادات للأيديولوجية بشكل عام، وآمل ألا يُقابل ذلك بردّ انفعالي أو عاطفي، لمن يرغب في الرد، إن وجد، على مضمون الدراسة، بل المطلوب رد عقلاني ومتجرد من الأهواء والعواطف والأدلجة، حتى يمكن الوصول إلى تصوُّرات وأفكار أفضل، لمصلحة التيار الوطني والمنتمين إليه.
توقف د.عبدالله الجسمي في نهاية الحلقة الماضية أمام مسألة في غاية الأهمية، تتمثل بالفهم الحقيقي للدين، وكيفية تعامل الكويتيون الأوائل معه، وفي هذه الحلقة يواصل حديثه عن الأفكار التنويرية، ويقول استكمالا لما بدأه:
العنصر الثاني للأفكار التنويرية، هو بلا شك، الكتابات العربية، التي ساهم فيها خيرة المفكرين والمثقفين العرب المشتغلين بالفلسفة والفكر والثقافة أثناء فترة النهوض الثقافي العربي. فقد قدَّم الكثير منهم، خصوصاً من المفكرين العقلانيين، وليس من الأيديولوجيين، أفكاراً عقلانية تنويرية، شخصوا فيها مشكلات العقل العربي، وطرحوا العديد من الحلول، لمواجهة تلك المشكلات والتغلب عليها، وبناء ثقافة عصرية مدنية تتجاوز الثقافات التقليدية التي تسبب الانقسام والتشرذم بين أفراد المجتمع.
والعنصر الأخير، بلا شك، هو التراث الغربي، الذي أنتجه الفلاسفة والمثقفون والمفكرون الأوربيون على وجه الخصوص في عصر الأنوار، وكيف استفادت معظم مجتمعات العالم من تلك الأفكار، وطورت مجتمعاتها وواقعها، ووصل بعضها إلى أبعد مما وصل إليه الأوروبيون أنفسهم.
والمطلوب التعامل مع هذا التراث، بطريقة منفتحة ونقدية، والأخذ بما يناسب واقعنا، والعمل على إيجاد الوسائل الكفيلة بنشر تلك الأفكار، لإحداث تغييرات فكرية وثقافية، بدلاً من مظاهر التراجع الفكري والثقافي المنتشرة في مجتمعنا.
اعتباران أساسيان
هناك عاملان أساسيان لابد من أخذهما بعين الاعتبار لتناول الأفكار التنويرية التي تهدف للتغيير؛ يقوم الأول على التعددية في طرح الأفكار التنويرية وعدم الاكتفاء بتجربة واحدة أو ثقافة واحدة، فهناك مجتمعات مختلفة مرَّت بتجارب عديدة يجب دراستها جيداً، والأخذ بحلول متنوعة، لتغيير واقعنا الفكري والثقافي.
أما الثاني، فهو عدم اقتصار عملية التغيير على طرف واحد، بل يجب أن يكون هناك جهد مشترك بين فئات عدة في المجتمع، مثل السياسيين والاقتصاديين والمفكرين والمثقفين الأكاديميين، الذين يربطون العلم بالواقع والثقافة، والمبدعين ورجال الدين المستنيرين وكل الأطراف التي يمكن أن تساهم بإطار عملية تحديث المجتمع، لتشكل طليعة تقود عملية التغيير الثقافي والفكري، لتحقيق نهوض ثقافي يمس مناحي الحياة المختلفة في المجتمع.
الثقافة والتغيير المنشود
الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الدراسة، هي إحداث تغيير ثقافي في واقع المجتمع الكويتي، بعيداً عن الأيدولوجيا أو الجوانب الشخصانية للثقافة وطرح الأفكار بواقعية وإيجاد الحلول للمشكلات السائدة وكيفية الخروج منها.
وفي البدء، لابد من الإشارة إلى جملة من الأسباب، التي استدعت التركيز على الثقافة، كوجهة فكرية للحركة الوطنية الكويتية والحل لأزمة واقعنا الحالي. فالنظرة النقدية الفاحصة لواقع المجتمع الكويتي، بل والعربي، ستجد أن السبب الرئيس للأزمة التي نعيشها، يكمن في الثقافة، فالأزمة هي أزمة ثقافة، والتي نراها مسؤولة عن كل ما نراه من تداعيات ومشكلات وصراعات، بل وسبب في عدم القدرة على إحداث تغيير وتحديث ثقافي حقيقي يتماشى مع حجم المتغيرات التي حصلت في البنية المادية.
والاهتمام بالثقافة ودراستها ونقدها، أصبح في عالم اليوم أمراً بالغ الأهمية، بعد انحسار الأيديولوجيا عن المشهد الفكري والثقافي على مستوى العالم، كما أن التغيرات التي حدثت في طابع التفكير الفلسفي منذ نهايات القرن التاسع عشر، تسببت في انهيار المذاهب الشمولية، ودخول العالم حالياً مرحلة العولمة، التي تروج للثقافة الاستهلاكية كإطار ثقافي لها.
لقد أدَّى غياب الأيديولوجيا، تحديداً، إلى عودة الشعوب لثقافاتها التقليدية المستمدة إما من العرق أو الدين أو العلاقة مع الطبيعة، فما حدث في يوغسلافيا السابقة، مثلاً، بعد انهيار الحكم الشيوعي، وكذلك الاتحاد السوفييتي وغيره من دول أوروبا الشرقية، ناتج عن فشل عقود طويلة من الترويج للأيديولوجيا التي أريد إلباسها الواقع بالقوة، إن جاز التعبير.. وعلى الرغم من هذه العودة للثقافات التقليدية للشعوب وبروزها بقوة، فإن ذلك يساهم تدريجياً في عملية تحديثها الثقافي، ودخول تلك الشعوب لواقع المجتمعات المدنية، وإحداث تغيير فعلي باتجاه الثقافة والدولة المدنية.
«تضعضع» وتراجع
ولا شك أن عودة العديد من شعوب العالم إلى ثقافاتها التقليدية ناتج من قوة الثقافة أمام، إن جاز التعبير، «تضعضع» الفكر الأيديولوجي، فقد انتشرت في العالم بمراحل مختلفة العديد من الإتجاهات الفكرية، إلا أنها تراجعت بعد ذلك، وبقيت ثقافات الشعوب هي الأقوى والأكثر استمرارية من غيرها.
فالفكر بشكل عام، والأفكار الأيديولوجية بوجه خاص، تعبّر عن نظام فكري مجرَّد يزدهر مع طبيعة الأفكار التي تسود في عصر ما، وتنحسر مع التغييرات في طابع التفكير العقلي والتحولات في الأسس المنطقية التي يقوم عليها.
أما الثقافة، التي قد تصيبها بعض التشوهات، نتيجة بعض التحولات المادية، بقيمها ومنظومة سلوكها العملي، تعد أكثر بقاءً من أي قوالب نظرية فكرية. فهناك شعوب لا تزال تتمسك بثقافاتها منذ الآلاف من السنين، منها على سبيل المثال الثقافة الريفية والقبلية.
والثقافة أيضاً هي الحاضنة الرئيسة لأي أفكار وطرق تفكير تنتج عنها. فالثقافة المنغلقة تعد أرضية خصبة لإنتاج التفكير المنغلق والمتطرف، وتقود للانعزال، بينما الثقافة المنفتحة، هي الأكثر قابلية للتطور والتعايش مع الآخرين.
الواقع الكويتي
وبالعودة للخصوصية الكويتية، سنجد أن الحاجة للإصلاح الثقافي، هي الأكثر إلحاحاً، نظراً لما وصلت إليه الأمور من تداعيات على شتى الأصعدة، ويتضح ذلك من عملية التطور السريعة، التي حدثت في واقع المجتمع الكويتي، بعد تدفق الثروة النفطية.
ففي فترة وجيزة تحوَّل الكويتيون من الاعتماد على الطبيعة ومواردها وركوب البحر، كوسائل للرزق وكسب العيش، إلى مجتمع مختلف، تماماً، يعتمد بالدرجة الأولى على مؤسسات الدولة الحديثة والعمل الإداري، والوتيرة السريعة للتغيير التي جاءت بها الثروة النفطية خلقت فراغاً ثقافياً كبيراً.
فالثقافة التقليدية التي سادت المجتمع الكويتي القديم جاءت نتيجة طريقة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي عاشها الكويتيون قديماً، وكانت تتماشى مع طبيعة الواقع القديم، لكن التغيير السريع للدولة الحديثة لم يتواكب معه تغيير ثقافي بالسرعة نفسها، ولم تستطع القوى الداعية إلى التحديث التي حملت العديد من الأفكار التنويرية أن تنجح في ذلك، نتيجة طبيعة تركيبة بعض مكوناتها، وتمسكها بجوانب من ثقافتها التقليدية التي لا تتماشى مع المفاهيم المدنية الحديثة، خصوصاً في النظر للإنسان وقيمته ودوره في المجتمع والتمييز بين أفراده.
غياب كبير
لقد نتج عن ذلك فراغ ثقافي، تمثل في غياب الثقافة المدنية الحديثة التي تعبر عن مجتمع ودولة المؤسسات، التي تعد أحد أبرز متطلبات عملية تحديث أي مجتمع. وقد نتج عن ذلك، للأسف، أن هيمنت عدد من الجوانب السلبية من مظاهر الثقافة التقليدية، لا الجوانب الإيجابية التي كانت تغلب عليها، على مؤسسات الدولة الحديثة، فأصبحنا نعيش في حالة ازدواجية في مجتمع تتقدم بنيته التحتية على ثقافته العامة.
وقد فتح الفراغ الثقافي المجال للسلطة في نشر الثقافة التي تراها مناسبة، منها الحفاظ على العقلية التقليدية في إدارة شؤون البلاد، وعدم الاكتراث في بعض الأحيان للدستور والقوانين، وتسييس الشرائح الاجتماعية، كالقبيلة والطائفة، وبالتالي تسييس ثقافتيهما ونشرها في المجتمع، وأصبحت السياسة مصدر الثقافة الرئيس للمجتمع، في ظل غياب الرؤية الواضحة من قِبل الحركة الوطنية لمتطلبات التحديث، والاهتمام بالسياسة بالدرجة الأولى على حساب الجوانب الفكرية والثقافية.
البديل الوطني
وتتضح الحاجة، أيضاً، إلى معالجة الوضع الثقافي في ممارسات الغالبية الساحقة من المنتمين للتيار الوطني الديمقراطي أو الحركة الوطنية بشكل عام، إذ لم تنجح النخبة التي تقود التيار الوطني في أن تكون أنموذجاً ثقافياً حديثاً، يمثل بديلاً لمفاهيم وقيم الثقافة التقليدية، فالجميع نشأ في بيئة ثقافية واحدة وتشرب بقيمها ومفاهيمها المختلفة، وليس من السهل التخلص من عدد من قيم تلك الثقافة.
والمقصود في ذلك، هو عدم نجاح القوى الوطنية في بناء تنظيمات ذات طابع مؤسسي تعمل وفق اللوائح التنظيمية التي تنظمها، ويمتثل منتسبيها لقرارات الأغلبية وتتحقق فيها ممارسة ديمقراطية سليمة. فالغالبية الساحقة من منتسبي التجمعات الوطنية يؤمنون بالديمقراطية، لكن لا يمارسونها بشكلها السليم، أي أن معظم ممارساتهم ليست ديمقراطية، وهناك أمثلة عدة يمكن الاستشهاد بها، منها الشخصانية والفردية في ممارسة العمل الوطني وغياب ثقافة الاختلاف وتقبل الرأي الآخر، والخروج عن التجمع السياسي، في حال الاختلاف في الموقف السياسي وعدم تقبل النقد، أو إتاحة الفرصة للأجيال الشابة لاتخاذ القرار أو حتى تسلم زمام القيادة وغيرها من ممارسات لا تعكس طبيعة الممارسة الديمقراطية السليمة.
فالانتقادات التي توجه للسلطة في الحكومات المتعاقبة نجد ما يقابلها عند العديد من تجمعات القوى الوطنية، وبالتالي لم تقدم بديلاً فعلياً يصلح أن يكون أنموذجاً يتبع في الممارسة الديمقراطية الفعلية.