ما إن يتولى شخص ما مسؤولية منصب وزاري، حتى يُدلي بأحاديث وتصريحات عن عزمه لفعل كذا أو كذا، وفقا للمكان الذي يقوم بإدارته.. هكذا كانت تصريحات وزير التجارة والصناعة، الذي تم تعيينه أخيرا، التي أعلن من خلالها أنه يسعى إلى تحويل الكويت لمركز مالي وتجاري.. الخ، من تلك المعزوفة المكررة.
يقول محدثي، وهو يمارس أعمالا وأنشطة خدمية – على قد إمكانياته – إن «مَن يعمل في الكويت بإنشاء أنشطة ما، يعد بطلاً أمام الإجراءات التي تزداد صعوبة من سنة لأخرى.. حوّل أعمالك إلى دولة خليجية، واشعر بالفارق الكبير في النواحي الإجرائية والتسهيلات الممنوحة عند المقارنة».
من واقع تجربته شعر أن ما قام به في الكويت كان نوعا من البطولة، قياساً بما وجده في عُمان، التي امتد نشاطه إليها، وفي دولة خليجية أخرى، وبالذات في دولة الإمارات، تكون الإجراءات ميسَّرة، وبعيدة عن الروتين.
بعد عام 2003 اشتكى عدد من المتعاملين مع العراق من صعوبة إجراء إلزامي في دبي، ما يحول دون إعادة التصدير إلى العراق، الذي كان شبه جاف بعد سنوات الحصار والحروب، وبلمح البصر تم إلغاء الإجراء، وسارت عجلة إعادة التصدير وفق المطلوب.
مؤشرات علمية
في الكويت، التي لا تبعد عن العراق أكثر من مائة كيلو متر، ظلت الأمور عما هي عليه، وكما يقول المثل «طارت الطيور بأرزاقها»، من جراء التشدد، وانعدام روح المسؤولية، وعدم الاكتراث للعمل.
قد تكون هذه الأقوال من محدثي، أو مما يمكن متابعته، نوعا من الانطباعات، التي ربما تكون خاطئة أو مبالغا فيها، ولكن المؤشرات العلمية تثبت أنها ليست مجرد انطباعات.. فبموجب تصنيف سهولة الأعمال الصادر من البنك الدولي، احتلت الكويت – كالعادة – المرتبة الأخيرة في التصنيف، من حيث سهولة الأعمال والنشاط التجاري، وجاءت في المرتبة 86 عام 2014، بينما كانت تحتل المرتبة 79 في السنة التي سبقتها، في حين احتلت الإمارات المرتبة 22 والبحرين 53، والمملكة العربية السعودية 44، وقطر 50، وعُمان جاءت في المرتبة 60.
هذه الأرقام مستندة إلى بيانات ودراسات مسحية، وليست انطباعات، قد تصيب أو تخطئ، وهي أيضا صادرة من البنك الدولي، كوحدة قياس ومؤشر للشركات التي ترغب بالاستثمار داخل الكويت، وأيضاً هي مؤشر استدلالي للدول، لتعرف أين تقف على المستوى العالمي في سهولة أو صعوبة النشاط التجاري أو الخدمي فيها، ولاسيما أن صعوبة الإجراءات ينتج عنها عزوف الشباب عن القيام بأنشطة تجارية أو خدمية، ما يؤدي إلى زيادة التكدس الوظيفي في القطاع الحكومي.
واقع ملموس
اللافت في الأمر، أن تراجع الكويت في مؤشر سهولة الأعمال يأتي بشكل متواصل، وأيضاً وفق بيانات البنك الدولي، الذي ذكر في تقريره عام 2011، أن «الكويت أتت بالمرتبة 74 على مستوى العالم، بعد أن كانت تحتل المرتبة 69 عام 2010، وحلَّت بعد المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات وقطر وعمان، فماذا يعني هذا؟».
ببساطة، بدلا من أن تقوم الدولة بتسهيل الإجراءات، فإنها زادت من صعوبتها.. وبدلا من أن تعالج مناحي القصور وتسير بأوضاع تنافسية مع دول الإقليم الخليجي، نجد أنه كأن هناك تعمدا في تقديم الأعذار أكثر، بحيث إنها كانت في المرتبة 69 عام 2010، لتصل إلى المرتبة 86 العام الماضي، ولا نعلم بأي درجة ستكون هذا العام أو الأعوام المقبلة.
إذن، العملية ليست انطباعات عامة، بل هي واقع ملموس، يعيشه كل مَن يمارس نشاطا اقتصاديا أو تجاريا ما، ومقولة إن مَن يعمل في الكويت يعد «بطلا»، فيها جانب من الصحة، من جراء الصعوبات التي يواجهها كل مَن يمارس مثل تلك الأنشطة.
نظرية ثابتة
لغة الأرقام كاشفة، لا تحتمل المراوغة، ولا تُغطى بتصريحات وأُمنيات أحلام اليقظة و«سوف أعمل كذا أو كذا».. هذه الأرقام تحدد مرتبة الدولة التي يتدنى الأداء فيها وتزداد الصعوبات فيها، تدهور يفترض إيقافه قبل الكلام المكرر، وهناك نظرية ثابتة تقول إنه كلما صعبت الأعمال زادت الرشوة والعكس صحيح، وعلينا إقامة ترابط ما بينصعوبة الإجراءات وتعقيدها ومؤشر مدركات الفساد، وهذه تعد نتيجة لتلك.
كما أن مثل هذه المؤشرات تعطي انعكاسا عن حالة الإدارة الحكومية، عندما يتولى المناصب أشخاص غير كفوئين وعديمي الخبرة في تسيير الأمور، فقد غدت التعيينات في أغلبها خاضعة لترتيبات ووساطات انتخابية أو علاقات ذات ارتباط مع نافذين، معايير تعيق العمل، وتعمل على تدني مستواه، وليس الارتقاء به، ومَن يحتل منصبا بكفاءة متواضعة سيأتي بمرؤوسين أكثر منه تواضعاً بالأداء، وهكذا يتراكم تدني الأداء من المرتبة العليا إلى المراتب الأقل منها في السلم الإداري، وشهادة رئيس مجلس الوزراء في أول مؤتمر صحافي عقده مع الصحافة لا تزال ماثلة في الذاكرة، عندما تحدث عن وضع التعيينات، ووصفها بأنها خاضعة للأهواء والوساطات، وليس الكفاءة وجودة الأداء.
لا مانع أن تطرح مثل هذه الملاحظة من قِبل الصحافة، أو يأتي بها رأي من مواطن، ولكن أن تأتي من أكبر مسؤول بالجهاز التنفيذي للدولة، فهنا تكمن المشكلة، لتظهر الأرقام وفق تصنيف البنك الدولي انحدارنا في مؤشر سهولة أداء والعمل.
(م.غ)