
كتب د.عبدالله الجسمي:
انتهيت من هذه الدراسة منذ ما يقارب العام ونصف العام، لكن حالت كثرة الانشغالات عن نشرها في وقت مبكر.. ومع إعادة قراءتها أخيرا، وطلب الرأي من بعض الشخصيات الوطنية والثقافية، الذين أبدوا، مشكورين، عدداً من الملاحظات عليها، إلا أنني اكتفيت بملاحظات محدودة جداً لم تمس النص الأصلي.
وعلى الرغم من أن الدراسة تتحدَّث عن الحركة الوطنية الكويتية، وواقع المجتمع الكويتي، فإن هناك الكثير من أفكارها يتماشى مع الواقع السائد في المجتمع العربي، وإشكالياته السياسية والفكرية والثقافية، فالكويت جزء من الوطن العربي، وما يجرى فيه ينعكس عليها، نظراً للتشابه الكبير في الواقع الاجتماعي والثقافي.
وتتضمَّن الدراسة انتقادات للطريقة التي فُهم بها مفهوم «القومية» في الفترة التي ازدهرت فيها الحركة القومية العربية، وكذلك انتقادات للأيديولوجية بشكل عام، وآمل ألا يُقابل ذلك بردّ انفعالي أو عاطفي، لمن يرغب في الرد، إن وجد، على مضمون الدراسة، بل المطلوب رد عقلاني ومتجرد من الأهواء والعواطف والأدلجة، حتى يمكن الوصول إلى تصوُّرات وأفكار أفضل، لمصلحة التيار الوطني والمنتمين إليه.
توقف د.عبدالله الجسمي في الحلقة الماضية من دراسته أمام نزعتين أساسيتين من ثلاث، وهما العقل والعلم، وفي هذا الجزء يتناول النزعة الثالثة، وهي النزعة الإنسانية، ومن ثم يتناول ثلاثة مصادر مهمة، لإحداث تغيير في طريقة تفكير المجتمع الكويتي.
النزعة الإنسانية
أما بالنسبة لآخر نزعات عصر التنوير، وهي النزعة الإنسانية، التي تضمنت تغيير مفهوم الإنسان والنظرة له ودوره في الحياة، فقد تم التعامل مع الإنسان كإنسان،

وسعى المفكرون والفلاسفة إلى بناء نظام سياسي عادل، يقوم على احترام الإنسان وحقوقه وتحقيق المواطنة العادلة، والقضاء على أشكال التمييز المختلفة بين المواطنين في المجتمع.
وعلى الرغم من مُضي أكثر من 50 عاماً على إقرار الدستور الكويتي، وما يتضمنه من نصوص تعزز من احترام الإنسان وحقوقه وتحقيق المواطنة العادلة وتكافؤ الفرص، فإن ذلك لم يتحقق فعلياً بشكل كافٍ في الواقع، سواء على مستوى الممارسة السياسية، بشقيها؛ الحكومي والشعبي، أو على المستوى الثقافي العام.
فثقافتنا موبوءة بأشكال عدة من التمييز بين الأفراد في المجتمع، لأسس عرقية وطائفية ودينية وقبلية، ويسود التمييز حتى بين الفئات المكونة للأطراف المذكورة، علاوة على مظاهر الإقصاء والتطرف والدعوة لاستخدام العنف بحق الآخرين، فضلا عن التقسيمات الاجتماعية والتقليل من شأن الإنسان وقيمته من قِبل بعض الفئات تجاه فئات أخرى.
مصادر ثلاثة
المطلوب، هو تغيير جذري للتصورات السائدة عن الإنسان، لا تقوم على العرق أو الطائفة أو القبيلة أو الدين أو الانتماء الاجتماعي، فالفرد تفرض عليه بعض قيم المجتمع في التمييز، بسبب انتمائه العائلي أو الاجتماعي، وتلصق به صفات بالوراثة، وبمجرد ولادته، وكأنها بديهيات لا يمكن المساس بها أو مناقشتها، وتغيير المفهوم أو المفاهيم السائدة عن الإنسان يعتبر ركيزة أساسية لتوحيد المجتمع والالتفات إلى قضاياه الفعلية، التي تمس الجميع، لا الانشغال بقضايا وهمية نتائجها قد تكون سلبية جداً على المجتمع ومستقبله.
ويستدعي الأمر هنا تحديد المصادر التي يمكن الأخذ منها لأحداث تغيير فعلي في طريقة تفكير المجتمع وعلاج مشكلاته الفكرية والثقافية، ويمكن تحديد ثلاثة مصادر أساسية، هي: التراث الكويتي وأدبيات الثقافة العربية إبان النهوض الثقافي العربي، والإرث الفكري والفلسفي الأوروبي لعصر التنوير.
التراث الكويتي
يمثل التراث الكويتي التقليدي مصدرا مهما لإصلاح الواقع الفكري للمجتمع الكويتي، فقد عاش الكويتيون الأوائل طريقة حياة ومعيشة صعبة، وواجهوا العديد من المخاطر الخارجية المحدقة بهم، إلا أنهم استطاعوا اجتياز تلك الظروف والمخاطر، نتيجة توحدهم وتماسكهم.
فالمجتمع الكويتي القديم تكوَّن من ثلاثة مكونات أساسية جاءت من نجد والعراق وفارس، إلا أنهم انصهروا في خليط واحد، وبنوا مجتمعا في صحراء قاحلة جرداء، تميَّز بالتجانس والتعاون والتعاضد والتسامح وقبول الآخر والتمسك بالقيم الأخلاقية الرصينة، كالصدق والأمانة والنزاهة والتراحم.. إلخ، وتميَّزوا بالانفتاح على الآخرين، والتفاعل الثقافي معهم، ونبذوا أشكال التعصب والتطرف والكراهية، وغيرها من مفاهيم التفرقة والتشرذم.
ولا شك أن قيم الثقافة السائدة في المجتمع الكويتي القديم تقف وراءها طريقة تفكير اتسمت بالعقلانية، على الرغم من بساطة المجتمع وقلة المتعلمين فيه، لكن صعوبة الحياة فرضت على الكويتيين التفكير الواقعي، الذي يتسم بالعقلانية، بغض النظر عما إذا كان المرء متعلما أم لا.
وقد كانت الكويت مركزاً تجارياً وثقافياً، حيث تقلدت الريادة في المنطقة من جوانب عدة، منها التجارة والتعليم والمجالس المنتخبة منذ بدايات القرن الماضي وتطوير المجتمع ومؤسساته الشعبية والرسمية، وعرفت الكويت حركة ثقافية مستنيرة ومتفاعلة، كما تمَّت الإشارة في بداية الدراسة، مع محيطها وتطوراته الإيجابية.
وللتعرف على الجوانب الفكرية والثقافية والعقلانية التي سادت المجتمع الكويتي القديم، يمكن الرجوع إلى كتاب د.خليفة الوقيان القيّم الموسم بـ»الثقافة في الكويت.. بواكير واتجاهات»، ليدرك القارئ عن كثب كيف كان الكويتيون القدماء متقدمين بطريقة التفكير العقلانية المستنيرة، وكذلك الثقافة عن واقع الكويت الثقافي الحالي، فما نراه من مظاهر حالية للتطرف والتعصب والتفرقة وإقصاء الآخر، ما هي إلا مظاهر دخيلة على المجتمع الكويتي، ولا تمثل حقيقته أو ثقافته بامتدادها التاريخي.
بين المستهلك والمنتج
وهناك مسألة في غاية الاهمية، وتمثل أساساً لعملية التطور الثقافي للمجتمع، وترتكز على أن يكون المجتمع منتجاً، لا مستهلكا، فالمجتمع المنتج هو المجتمع الديناميكي الذي يعيش في حركة تطور مستمرة وتفاعل بين ما هو جديد والقيم التقليدية السائدة فيه، ومن ثم تنعكس عملية الإنتاج والتطور على السلوك والممارسات السائدة وتزدهر فيه الثقافة وتتطور.
وإذا نظرنا لواقع المجتمع الكويتي القديم سنجد رغم بساطته وصعوبات الحياة التي واجهت الكويتيين، لكنه كان مجتمعاً منتجاً استطاع أن يصنّع الكثير من حاجياته الأساسية، فقد عوّض الكويتيون افتقار بيئتهم للزراعة إلى الاتجاه للتجارة البحرية والغوص، رغم الصعوبات والمخاطر الجمة، دفع ذلك بأن تكون الكويت مجتمعاً تجارياً سعت النخبة التجارية فيه إلى الاهتمام بالمعرفة والعلم والثقافة، فقد كان معظم مثقفي فترة ما قبل النفط ينتمون إلى تلك النخبة، التي كانت تتطلع إلى تطوير مجتمعها بشتى الوسائل، ولعل أبرز مثال على اهتمامها بالعلم والثقافة، ما قامت به من مجهود لإنشاء أول مدرسة نظامية في الكويت، المدرسة المباركية، وكذلك المكتبة والأندية الأهلية الثقافية والأدبية، كما سادت الروح العملية بين أبناء المجتمع، آنذاك، وأعطت هذه الروح ديناميكية للمجتمع، رغم بساطته، ودفعت أفراده للسعي لتطوير قدراتهم الذاتية والذهنية ومهاراتهم العملية، حيث أجادوا في العديد مما كانوا ينتجونه، خصوصاً السفن الشراعية، التي كانت تصنع بجودة واتقان وتجوب البحار شرقاً إلى آسيا، وجنوباً إلى أفريقيا.
وبالنظر لواقعنا اليوم، وما يسود فيه من قيم ثقافية استهلاكية ومتزمتة ومتطرفة، فهي نتاج لواقع مجتمع غير منتج، يعتمد كلية على ثروة ناضبة، ولن تزدهر الثقافة في المجتمع الكويتي، إلا من خلال تحوله إلى مجتمع منتج، لأن الإنتاح سيجعله يتطلع للتطور والتقدم، وهذا يعني التطلع للعلم والمعرفة، ومن ثم الثقافة.. بعبارة أخرى الإنتاج يعني التقدم العلمي والحضاري والثقافي.
أزمة جديدة
إن ما حدث في المجتمع الكويتي القديم منذ نشأته وحتى البدايات الأولى لتصدير النفط يُعد تجربة فريدة بحق، وبحاجة للمزيد من الدراسة والبحث، وفق نظرة شاملة لنشأة المجتمع الكويتي وتطوره، لاستخلاص الدروس والعبر، ولتكون مصدراً يستلهم منه الكويتيون الأفكار في التعامل مع الواقع ومتطلباته، فالثروة النفطية ناضبة، بلا شك، وسنعود مرة أخرى لأوضاع شبيهة تقريباً لما كانت عليه الكويت سابقاً، وإذا لم نعِ الدروس مبكراً، سنواجه أزمة حقيقية، ستكون ذات وقع سلبي جداً، نتيجة لزيادة عدد الكويتيين، وتطور العالم المتسارع، وقيام عدد من دول المنطقة للاستعداد لمرحلة ما بعد النفط منذ فترة مبكرة.
العامل الديني
هناك مسألة مهمة لا يمكن تجاوزها في النظر إلى التراث الكويتي القديم واستلهام الدروس منه، فطالما نحن نتحدث ونحلل بواقعية ونركز على الثقافة والهوية الكويتية، فهناك عامل مهم لا يمكن تجاوزه، ألا وهو العامل الديني.
ففي نهاية الجزء الخاص من تهاوي الأيديولوجيا، تمَّت الإشارة إلى بروز الأديان كعامل فكري مهم بعد التراجع الكبير الذي شهدته الأيديولوجيا، في الربط بين بعض مكونات أي مجتمع، وبالتالي لا يمكن إغفال هذا العامل في صياغة الأسس الفكرية التي يسير عليها العمل الوطني.
والحديث هنا ليس توفيقيا، بل يأتي في سياق الموضوعات التي تتضمنها الأسس الفكرية، خصوصاً في الحديث عن الهوية أو الثقافة، فالدين جزء أساسي، إن لم يكن الجزء الأساسي في تكوين الهوية الكويتية والثقافة السائدة في المجتمع، وبالتالي إذا كان هناك تركيز على الثقافة والتغيير الثقافي، فلابد أن يدخل كعامل أساسي في هذا السياق.
وهناك دروس عدة يمكن الاستفادة منها من الفهم الذي قدمه الكويتيون الأوائل للدين الذي كان فهماً صحيحاً وحضارياً في بناء وتكوين الشخصية الكويتية الفردية والعامة، ووضع العامل الديني في السياق الفكري يجنبه ظاهرة من أسوأ الظواهر التي يعيشها المجتمع العربي المعاصر، وهي ظاهرة الإسلام السياسي الذي شوّه صورة الإسلام بممارسات وأفعال وأطروحات وأفكار لم يعتد عليها الكويتيون، وغيرهم، من قبل.
وقد اختطف الإسلام السياسي مجتمعات بأكملها وأراد العودة بها إلى الوراء، ولعل الصراع الذي تخوضه قوى التحديث والتنوير في المجتمع، هو ضد هذه القوى التي استغلت الدين لمصالحها السياسية والاقتصادية، وليس ضد الدين وفق ما تروجه قوى الإسلام السياسي.
الفهم الحقيقي
ويمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن استخلاصها من الفهم الحقيقي للدين الذي قدمه الكويتيون الأوائل، فقد كان الدين مكونا ثقافياً لثقافة المجتمع، وليس أحد مكوناته السياسية، حيث نجحت النخبة الفاعلة في المجتمع لإبعاد الدين عن السياسة، وجعله مكوناً أساسياً لثقافة المجتمع.
وعلى الرغم من كون رواد إلإصلاح الديني في بدايات القرن العشرين هم من قاد لواء الإصلاح في المجتمع، فإنهم لم يزجو الدين بالسياسة، بل كانوا رواداً للثقافة والفكر وتحديث المجتمع وتطويره، كما كان فهم الدين عقلانياً، وليس فهماً متزمتاً أو متطرفاً أو متعصباً، إذ كان التسامح من بين أكثر خصال المجتمع الكويتي القديم وضوحاً وانتشاراً، إلى جانب التعايش وقبول الآخر وغيرها من مفاهيم أخرى.
وعلى الصعيد الفردي، فالدين زوّد الإنسان بتجربة روحية، وهذه التجربة تكاد تكون متأصلة في الإنسان منذ القدم، وكذلك ساهم في البناء الأخلاقي للفرد لما يتضمنه من قيم أخلاقية تتجاوز الفرد إلى الصالح العام للمجتمع، أي أن تتصدر قيم الاستقامة والنزاهة والأمانة والعفة وغيرها، وبروح عصرية، شخصية الفرد وطريقة تعامله مع الآخرين ومع المجتمع والدولة.
خلاصة القول، إذا كان السعي الأساسي هو التحديث الثقافي للمجتمع وإعطائه وجهاً حضارياً، فإن ذلك يتطلب فهماً عصرياً وحضارياً للدين، يستوعب التحولات التي جرت في المجتمع الإنساني من جهة، وتحديد الأطر التي يعمل بها، خصوصاً الجانب الذاتي والأخلاقي من جهة أخرى.