محمد الغربللي:
لم نكن نتجاوز الـ 18 من العمر، وكان التفاعل القومي على أشده في ذلك الوقت خلال المرحلة الثانوية، كانت البوصلة هي فلسطين السليبة وقطعان العصابات الصهيونية تجهز الرايات البيضاء أمام الفتح العربي وعودة فلسطين لأهلها.. كان التغييب والجهل هما المسيطران، جهل بإمكانات إسرائيل وعلاقاتها، وتغييب لأوضاعنا العربية، ومع ذلك كنا على يقين بأنه ما إن تبدأ الحرب، حتى يتم اكتساح إسرائيل من شمالها إلى جنوبها.
الأوضاع كانت مؤثرة في شهر مايو من عام 1967، وكان الحماس يتصاعد، وكنا نستشعر ارتعاد الصهاينة من على بُعد مئات الأميال، ونقول «الويل لهم، إذا لم يعيدوا فلسطين إلينا بعد كل تلك السنوات التي احتلوها»!
في تلك الفترة، كنت أدوّن يومياتي أول فأولا ويوما بيوم، كان يوم الإثنين هو الأول من حرب عام 1967، وكانت المتابعة تتم عن طريق الراديو، وأحياناً في صالة التلفزيون في المدينة الجامعية، وكانت الأسطر الأولى بعنوان «يوم يسجل نفسه»، وهو عنوان إنذار للصهاينة، ولكنه كان يوما سجل نفسه على العرب ولا يزال.
بدأت السطور بـ «اليوم هجمت فلول وبشكل لا يتصور من طائرات العدو الإسرائيلي، وكانت مواقعها المطارات العسكرية في مصر، ومع أن مصر كانت تسقط ساعة بعد ساعة عشرات الطائرات، لكن قوات العدو لم توقف الضرب لغاية الساعة السابعة مساء.. أما القوات العربية، فقد تحرَّكت الجيوش الأردنية والسورية والعراقية، وفي الليل تحرَّكت قوات جزائرية إلى مصر، المعركة غير واضحة مع أن الأخبار الفرنسية قالت إن المعركة لصالح إسرائيل».
كان هذا جزءا من يوميات اليوم الأول من حرب 1967، ولا أعرف لماذا استخدمت كلمة «فلول من الطائرات»، ولكن هكذا وردت الكلمة.. أما اليوم الثاني من اليوميات، فقد بدأت بـ «اليوم علمنا أن إسرائيل ليست وحدها، ولكن مع أميركا وبريطانيا، وأن الطائرات الإنكليزية والأميركية عملت مظلة واقية فوق سماء إسرائيل.. هذا، وقد علمنا أن القوات الأميركية تتحرَّك من ليبيا»، وفي اليوم الثالث بدأت بوادر الهزيمة تتضح بشكل ما، وما يلفت الانتباه ما دونته في ذلك اليوم بالقول: «75 طائرة أميركية قامت اليوم (7/6) من القاعدة الأميركية في ليبيا».. وهكذا مضت التدوينات اليومية، حتى التاسع من يونيو، ونحن ننتظر جماعة خطاب الرئيس جمال عبدالناصر، انتظار على أحرّ من الجمر لما سيقوله، كنا جماعة أمام جهاز التلفزيون بالأبيض والأسود بانتظار الكلمة، لعل وعسى نسمع خبراً مفرحاً، ولكن كان الوجوم وفورة من الدموع بعد انتهاء كلمته التي أعلن فيها استقالته يوم الجمعة 9 يونيو، وفي اليوم ذاته استقال عبدالحكيم عامر وشمس بدران وزير الدفاع، «والآن الجيش الإسرائيلي تحول إلى الجهة السورية، وهناك يكافحون كفاح الأبطال»، بعدها بأيام توقفت المدافع باحتلال كل سيناء والجولان والضفة الغربية.
نحن في الوقت الحاضر، والحاضر يكشف الماضي أو جزءا كبيرا منه، بشأن الطائرات الأميركية التي تحرَّكت من ليبيا، ومقولة عبدالناصر الذي ثارت التعليقات الساخرة عليها «انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب»، هذا الحدث والتعليق يعيدنا إلى محاضرة قام بها الصحافي روبرت فيسك في إسبانيا، متحدثاً عن الأوضاع العالمية والعربية بشكل خاص، ووقف أحد كبار السن من الحضور، وهو أميركي الجنسية، وعرّف بنفسه أنه طيار حربي أتته الأوامر، كما غيره من القاعدة الحربية الإنكليزية في جبل طارق، بالتوجه إلى قاعدة ويلس الأميركية في ليبيا وطلاء المقاتلات الحربية بالعلم الإسرائيلي، ومن هناك باشرت القصف على المواقع المصرية.
الذاكرة تحكي أن هذه الحرب جرى الاستعداد لها، إسرائيلياً وأميركياً، ومن قبل أطراف عربية، بهدف القضاء على عبدالناصر، ليس كشخص أو نظام، بل كرمز لمشروع تنموي ونهضوي عربي في كافة المجالات، إشعاعاته كانت بدأت تمتد إلى الأقطار العربية والأفريقية، الهدف كان القضاء على هذا المشروع الوليد، والخطأ الكبير أنه لم تكن هناك استعدادات كافية وحقيقية للمحافظة عليه والدفاع عنه، وهكذا جرت الأمور.. هي أوراق من الذكريات المكتوبة، مع بدء ريعان الشباب، تعلن تآكل هذا المشروع النهضوي، لنصل خلال السنوات الأخيرة إلى «القاعدة» و«النصرة» و«داعش»، والانقسامات الطائفية والمشاريع التقسيمية، منذ 5 حزيران 1967 بدأ تنفيذ هذا المشروع الظلامي ولازال مستمرا.