
كتب محرر الشؤون العربية:
يبدو لافتاً، أن المشهد اليمني يتجه نحو مزيد من التعقيد السياسي والعسكري، نتيجة تصلب المواقف الحوثية، التي تستند إلى معطيات فكرية وعقائدية لا تعرف للبراغماتية السياسية طريقاً.
وفيما يرى كثير من المحللين، أن هذه التعقيدات قد تدفع باليمن إلى أتون حرب أهلية طويلة، يذهب آخرون إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في اليمن لم يعد قادراً على امتصاص المزيد من الأزمات والحروب.
فتّش عن صالح!
كشفت الأحداث الأخيرة في اليمن عن حالة فرز غير مسبوقة في المجتمع اليمني، ربما تكون على الأرجح انعكاساً لحالة انقسام حقيقية تجاوزت العامل السياسي إلى جذور جيوسياسية ومذهبية عبَّرت عنها صراحة حالة الاصطفاف الناشئة، التي جعلت من الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح، وما يمثله من مرجعية سياسية تقليدية في مناطق اليمن الزيدية في الشمال، يقف في خندق واحد إلى جانب الجماعة الحوثية، التي لا تبذل أيّ جهد يذكر في إخفاء تمايزها المذهبي، الذي تسبَّب في نشوء حالة تعصّب واصطفاف موازٍ تجلّى في صورته السياسية، من خلال مؤتمر الرياض، الذي يمثل تكتلاً جديداً في مواجهة ما يعده البعض مشروعاً إيرانياً في اليمن.
ووفّرت التحولات الهائلة، التي ضربت الساحة السياسية في اليمن منذ انطلاق الأحداث في عام 2011، وأفضت إلى الإطاحة بصالح، على أيدي تحالف غير متجانس جمع التيارات الإسلامية واليسارية والقومية إلى جانب الحوثيين، الذين كانوا حتى ذلك الحين يتلمسون طريقهم لمغادرة جبال صعدة بدعم وتخطيط إيراني.
ارتخت قبضة صالح في مواجهة النفوذ الحوثي المتصاعد منذ ذلك العام، كما ارتخت في الوقت ذاته إرادته السياسية في التصدي لمن كان يعتبرهم أذرع إيران في اليمن، قبل أن تمتد يده لتصافح تلك الأذرع، في تحوُّل بارز انتهى بتشكيل تحالف جديد في اليمن بين حزب المؤتمر الشعبي العام وحركة الحوثيين، وهو التحالف الذي ظل صالح يُنكره على الدوام، قبل أن يعلن عنه صراحة من على أنقاض منزله الذي هدمته طائرات التحالف العربي.
تنسيق هش وحقد متبادل
تؤكد كثير من الشواهد، أن حالة التنسيق والغزل بين صالح والحوثيين كانت هشة وغير استراتيجية على الأرجح، يجتمع فيها حقد الطرفين على الأعداء ذاتهم، مثل الإخوان المسلمين وأولاد الشيخ الأحمر وكثير من القوى، التي كان صالح يرى فيها المتسبب في مغادرته السلطة، فيما تعامل الحوثيون مع تلك القوى كأعداء حقيقيين وخطر يعترض مسيرة الحركة، التي كانت تسابق سرعة الضوء في إسقاط المدن اليمنية لتغرقها في الظلام.
كان صالح عدواً ثانوياً للحوثيين، لكنه كان الأخير في قائمة الاستهداف الحوثية، التي لم تكن تعبأ كثيرا بالخدمات التي قدمها الرئيس المخلوع للجماعة، الأمر الذي مكّنها من اختصار الجهد والوقت في تنفيذ خطتها، حيث لم تغفر الدائرة العقائدية الضيّقة في الجماعة الحوثية لصالح حروبه الست، التي راح ضحيتها الآلاف من الحوثيين، إضافة إلى مقتل مؤسس الجماعة حسين بدر الدين الحوثي.
بعد أن أكملت الميليشيات الحوثية سيطرتها على العاصمة اليمنية (صنعاء) والعديد من المدن الاستراتيجية، وفرضت هيمنتها على كثير من معسكرات الجيش، حان الدور للتخلص من ثقل صالح العسكري، وهو الأمر الذي بدأ فعليا في محاولة إسقاط معسكر القوات الخاصة التابع للحرس الجمهوري، والذي كان يمثّل إسقاطه الاقتراب كثيرا من عنق صالح، الذي اعتبرته الجماعة العائق الأخير قبل إتمام مهمتها المقدسة.
خطأ استراتيجي لـ «الحاوي»
جاءت «عاصفة الحزم» وعصفت بمشاريع الجماعة الحوثية، وبعثرت أجنداتها، التي كان منها القضاء على «الحاوي»، الذي ظلّ طوال ثلاثة عقود يتباهى بقدرته على الرقص على رؤوس الثعابين، وظنَّ أن لعبته القديمة يمكن أن تنجح في ظل التحوّلات التي عصفت بالمنطقة وتجاوزت بُعدها المحلي نحو صراعات إقليمية ودولية، في ظل حالة فرز نهائي لا يقبل أنصاف الحلول، وهو ما لم يدركه صالح، الذي أخطأ التقدير وفق كثير من المحللين السياسيين، الذين قالوا إن هروبه نحو الحوثيين بدلا من التخلي عنهم كان الخطأ الاستراتيجي الأهم في مسيرته السياسية.
حسم صالح موقفه السياسي، أخيراً، مدفوعا بحقده على حزب الإصلاح والرئيس هادي، وقرر أن يضع يده في أيدي الحوثيين، الذين قرروا بدورهم خوض الحرب حتى النهاية، بدلا من التنازل قيد أنملة لصالح الوطن.
أدرك صالح بعد دكّ منزله في قلب العاصمة (صنعاء) من قِبل طائرات التحالف، أنه وقع في خطأ فادح، وظهر مرتديا بذلته الرسمية على أطلال منزله متحديا، وإن بدا صوته مخنوقا، مثل يوم تسليمه السلطة لنائبه هادي.
ويؤكد مراقبون أن صالح، على الرغم من مضيّه قدما باتجاه مواجهة التحالف العربي، فإنه حرص على تطعيم المشهد في الرياض بالكثير من المقرّبين له والذين لا يزالون يحاولون إيجاد ثغرة سياسية مشرفة قد ينفذ منها، ولو بالقليل من المكاسب السياسية، التي تحفظ وجود نجله كشريك في الدولة القادمة، وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا من خصومه المحليين أو الإقليميين، الذين صرحوا في كثير من المناسبات التي تلت «عاصفة الحزم»، بأنهم عازمون على طيّ صفحته.
الرهان على الوقت
وبات من المؤكد أن السعودية لن تقبل بوجود جار مقلق في خاصرتها الجنوبية، كما باتت المعركة في عنوانها الأبرز، إما انتصار إرادة إيران السياسية أو انتصار إرادة السعودية، وهو ما يشير إلى حرب طويلة في اليمن سيكون وقودها الناس والحجارة والبنية التحتية والكثير من العتاد العسكري والأموال.
وتتبدى هنا ثلاثة سيناريوهات محتملة لاتجاه الصراع بين الحوثيين وصالح من جهة والمقاومة الشعبية اليمنية والتحالف العربي من جهة أخرى، ويعتمد السيناريو الأول على الرهان على عامل الوقت الذي لا يصبّ في مصلحة الحوثيين وصالح الذين يتعرضون لحالة استنزاف هائلة في المقاتلين والمعدات مع وجود العديد من الجبهات وبؤر الصراع المتباعدة في عدن والضالع وأبين وتعز، التي تمثل بيئة معادية للحوثيين، مع الأخذ في الاعتبار أن المخزون الاستراتيجي من الذخائر والمعدات العسكرية في طريقه للنفاد مع تزايد الخسائر وقطع خطوط الإمدادات واستهداف مخازن الأسلحة والذخائر من قِبل طائرات التحالف، كما تشير الوقائع إلى فتح جبهات جديدة ساخنة، خصوصا في محافظات إقليم سبأ، الذي يضم «مأرب والبيضاء والجوف»، ويتصل بحدود مباشرة مع السعودية.
ويحمل هذا السيناريو حلا سريعا، يعتمد على تقليل المدة والخسائر في صفوف اليمنيين، من خلال التدخل البري من قوات التحالف عن طريق ثلاثة محاور محتملة، هي: محافظة مأرب، التي ترتبط بالسعودية وتسيطر عليها القبائل والجيش المناوئ للحوثيين وصالح، ويمكن أن يتم التدخل فيها من قِبل قوات سعودية، نظرا لتشابه التضاريس الصحراوية والمناخية التي يتدرب فيها الجيش السعودي.
فيما يمكن التدخل في عدن، من خلال إنزال بري للقوات المصرية، كما يمكن الدخول بشكل مباشر إلى معقل الحوثيين في صعدة، والمحاذي للحدود السعودية، وهو الأمر الذي يفسر حرص السعودية على وجود قوات باكستانية في التحالف، نظرا لتشابه التضاريس الجبلية الوعرة مع تلك المشابهة لها في باكستان.
يمنان على الطاولة
أما السيناريو الثاني في مآلات الصراع، فيعتمد على الاكتفاء بتحرير جنوب اليمن من ميليشيات الحوثيين وصالح، التي ستعود لإحكام سيطرتها على شمال اليمن، ليبدأ صراع طويل بين شمال اليمن وجنوبه، بدعم من أطراف إقليمية، وهو السيناريو الذي تفضله وتعمل من أجله الكثير من قيادات الحراك الجنوبي في الداخل والخارج، انطلاقا من رؤيتهم، باستحالة التعايش أو استمرار الوحدة بشكلها التقليدي.
منطق القوة والغلبة
والسيناريو الثالث، وهو الأقل كلفة في اليمن، لكنه الأقل احتمالا في الوقت ذاته، يعتمد على الحل السياسي، الذي لن يكون مقبولا، إلا بتقلص الدور والنفوذ الحوثي إلى ما قبل الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، حيث يتحوَّل الحوثيون إلى حزب سياسي، لا يستطيع بمفرده السيطرة، وفقا لمنطق القوة والغلبة، على الإرادة السياسية اليمنية، على أن يتم ذلك وفقا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني التي تلزم الحوثيين بتسليم أسلحتهم للدولة، إضافة إلى القبول بتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم فيدرالية، وهي الصيغة التي قد تقلص من نفوذ أيّ جماعة أو حزب، وتخلص الجنوبيين من حالة الشعور المتعاظم بالهيمنة الشمالية، فيما يتمكن الحوثيون، بالشراكة مع أطراف أخرى، مثل حزب الإصلاح، في قيادة المحافظات الشمالية.