
كتب د.عبدالله الجسمي:
انتهيت من هذه الدراسة منذ ما يقارب العام ونصف العام، لكن حالت كثرة الانشغالات عن نشرها في وقت مبكر.. ومع إعادة قراءتها أخيرا، وطلب الرأي من بعض الشخصيات الوطنية والثقافية، الذين أبدوا، مشكورين، عدداً من الملاحظات عليها، إلا أنني اكتفيت بملاحظات محدودة جداً لم تمس النص الأصلي.
وعلى الرغم من أن الدراسة تتحدَّث عن الحركة الوطنية الكويتية، وواقع المجتمع الكويتي، فإن هناك الكثير من أفكارها يتماشى مع الواقع السائد في المجتمع العربي، وإشكالياته السياسية والفكرية والثقافية، فالكويت جزء من الوطن العربي، وما يجرى فيه ينعكس عليها، نظراً للتشابه الكبير في الواقع الاجتماعي والثقافي.

وتتضمَّن الدراسة انتقادات للطريقة التي فُهم بها مفهوم «القومية» في الفترة التي ازدهرت فيها الحركة القومية العربية، وكذلك انتقادات للأيديولوجية بشكل عام، وآمل ألا يُقابل ذلك بردّ انفعالي أو عاطفي، لمن يرغب في الرد، إن وجد، على مضمون الدراسة، بل المطلوب رد عقلاني ومتجرد من الأهواء والعواطف والأدلجة، حتى يمكن الوصول إلى تصوُّرات وأفكار أفضل، لمصلحة التيار الوطني والمنتمين إليه.
في الجزء الخامس من دراسته، يتناول د.عبدالله الجسمي المحصلات النهائية للأيديولوجية، بحثا من مقدمات لتساؤل مشروع، هو ما البديل؟.. يقول في هذا الجزء:
إن النتيجة النهائية التي تؤدي إليها الأيديولوجيا، هي تصوير واقع مثالي ومتكامل تسود فيه العدالة والمساواة، أي أنها تسعى لخلق واقع مثالي يغيب عنه الاستغلال والتمييز بين المواطنين، وهذا الأمر ليس واقعياً، ولا يمكن أن يتحقق بالفعل.
ضرب من اليوتوبيا
لقد أثبتت التجارب أن الأفكار المثالية، بالنهاية، ضرب من اليوتوبيا، ولا يمكن خلق واقع مثالي، لا في جمهورية أفلاطون، ولا الأيديولوجيات الأخرى، فالجنة ليست على الأرض، والفكرة الكلية والمثالية العامة لا وجود لها في الواقع الذي يحتوي على الأحداث والوقائع الجزئية، وما يجري من أحداث يبقى لكل منها أسبابه الخاصة التي تنطبق عليه، ولا تنطبق على كل حدث في العالم.
وفي نهاية الأمر، إذا تمكنت الأيديولوجيا من عقلية مَن يتبناها، وخصوصاً إذا كانت في إطار الفهم العقائدي الجامد، ستفصله حتما عن الواقع، وسيعيش في عالم آخر أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
تعارض
وهناك مسألة أخرى تتعلق بالتعارض ما بين الديمقراطية والأيديولوجيا، فالديمقراطية عبارة عن آليات وممارسات عملية وقيم ثقافية وطريقة من التفكير النقدي والتحليل العقلاني المستند إلى الواقع، وتقوم على التعددية، وليست أيديولوجيا، بينما الأيديولوجيا تتسم بالطابع الفكري الأحادي، إذ لا تعدد للحقائق فيها وطريقة منغلقة من التفكير المنطقي المنطلق من مسلَّمات نظرية.
إن العملية الديمقراطية تعطي الفرصة للأفكار المختلفة، الأيديولوجية منها أو غيرها، للتنافس للوصول إلى السلطة، وفي حال وصول قوى ذات طابع أيديولوجي، فهناك فرصة كبيرة للانقلاب على الديمقراطية نفسها وإجهاضها قيماً وممارسة، كما هي الحال في محاولات القوى الأصولية ذات الأيديولوجيات الدينية المختلفة، خصوصاً في الواقع الذي نعيشه، كما حدث عندما تصل القوى الأصولية للحكم، فتصيغ دساتير وقوانين وممارسات غير ديمقراطية، أو كما حدث مع القوى ذات الأيديولوجيا الفاشية والقومية بأوروبا في المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
لقد تخلَّت الكثير من الأحزاب في الديمقراطيات العريقة عن طابعها الأيديولوجي، وتحوَّلت للتعامل مع الواقع بحلول واقعية، وليس بأفكار لا يمكن تطبيقها، ووضعت برامج ممكنة التطبيق، ووفرت الآليات اللازمة لتطبيقها، واستطاعت أن تتكيَّف مع التحولات الجارية في العالم، وهذا درس للأحزاب العربية والتجمعات المحلية يجب دراسته بشكل دقيق، والاتعاظ من الأشكال السابقة التي تم فيها تبنى الأيديولوجيا.
الواقع العربي
هناك قضية حية، لا يزال الواقع العربي يعيش تداعياتها حتى هذه اللحظة، والمتمثلة في الحراك العربي، الذي انطلقت شرارته من تونس في نهاية عام 2010، والذي عُرف لاحقاً بـ «الربيع العربي».. مَن يدقق جيداً في هذا الحراك سيقف عند ملاحظتين رئيسيتين على صلة بمسألة الأيديولوجيا: الأولى، طبيعة الحراك الذي كان شعبياً وشبابياً بالدرجة الأولى، بحيث لم يكن للقوى السياسية دورٌ يذكر في انطلاقته أو تنظيمه أو حتى نتائجه ولا قراراته، بل جر الحراك القوى السياسية التقليدية في الدول التي شهدت تغيرات فعلية ولا تزال.
لقد كانت الأحزاب السياسية القائمة على أيديولوجيات مختلفة في مؤخرة الركب، ولم تفلح خلال عقود طويلة من إحداث تغير حقيقي، كالذي جرى أخيرا في مجتمعاتها.
أما المسألة الثانية، فتتعلق أيضاً بالشعارات التي كان يرفعها الشباب، ومَن انضوى تحتهم في الحراك، فهي لم تكن شعارات ذات طابع أيديولوجي على الإطلاق، فالشعارات التي رُفعت طالبت ببناء دولة مدنية ومؤسسات للمجتمع المدني والتداول الديمقراطي للسلطة، ومحاربة الفساد وتطبيق مواطنة حقيقية على الجميع، وإلغاء مظاهر التمييز، وغيرها من الموضوعات التي لم تكن أيديولوجية الطابع، ولو رُفعت في ذلك الحراك شعارات أيديولوجية، لدبَّت حالة من الانقسام، وظهرت الفئوية، ولم تنجح الثورات الشعبية في تحقيق مطالبها.
أبرز البدائل
هذه القضية يجب أخذها بعين الاعتبار، فما يسعى له الشعب العربي اليوم هو بناء دولة ومجتمعات مدنية تحمل طابع الثقافة المدنية المعاصرة، بعيداً عن مظاهر التسلط واحتكار الحقيقة وهيمنة فئة أو شريحة ما على المجتمع ومقدَّراته، وتقوم على التعددية والتنوُّع في الفكر ومعالجة المشكلات.
ولا يمكن الحديث عن تهاوي الأيديولوجيا، من دون ذكر أحد أبرز البدائل التي نتجت عن ذلك، ألا وهو عودة الأديان والطوائف والثقافات العرقية والاجتماعية إلى الواجهة السياسية والاجتماعية من جديد، فقد كانت الأيديولوجيا رابطاً يجمع العديد من الأفراد في إطار نظري أو فكري واحد، يسعون من خلاله إلى تفسير الواقع وتغييره، وتميَّزت بأنها كانت تربط بين أفراد مجتمع أو مجتمعات ما، بغض النظر عن «انتماءاتهم» العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية، أي أنها كانت تتجاوز التقسيمات الموجودة في أي مجتمع، وتدمج فيها أفراداً من خلفيات مختلفة، تجعلهم يهتمون بما هو مشترك في ما بينهم، متجاوزين بذلك انتماءاتهم المختلفة.
ولاشك أن ذلك كان أمراً محموداً، ويعطي وجهاً حضارياً للمجتمع والأفراد الذين يتجاوزون خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، في سبيل توحيد الأفراد على أفكار من نتاج المدنية الحديثة، لا على قيم وأفكار تقليدية تقسم المجتمع إلى فئات، في بعض الأحيان، متناحرة.
الاتجاهات الدينية
إذا نظرنا للجانب الديني، سنجد أن الأديان والطائفية حلَّت إلى حد كبير محل الأيديولوجيا في معظم بقاع العالم، وما محاولات بعض الكتاب، أمثال صمويل هنتنغتون وغيره، من التركيز على الجانب الديني والصراعات التي قد تنتج عنه إلا تأكيد على انحسار الصراع الأيديولوجي من الساحة السياسية العالمية.
فهناك العديد من المجاميع اتجهت إلى الأديان والطوائف، كوسائل لتوحدها، ضمن إطار جماعي واحد، وحلَّ ذلك محل الأفكار الأيديولوجية، ونتج عن ذلك تحوُّل العديد من الصراعات على المستويين الإقليمي والعالمي من صراعات أيديولوجية إلى صراعات ذات طابع ديني وطائفي، استغلها العديد من السياسيين، من أجل تحقيق مكاسب سياسية وغيرها، سواءً في المجالات السلمية، أو الحروب، وجاء ذلك بنتائج عدة، لكن ما يهمنا هنا، هو أن الدين أو الأديان، أصبحت عاملاً من الصعب أن يتم تجاوزه في صياغة الأفكار العامة في المجتمع، الذي يغلب على مكوناته الطابع الديني، ويسعى لتطوير نفسه، خصوصاً في مجتمعاتنا بمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
الفهم المتطرف
ولا يفوت أن نذكر هنا، أن العودة إلى الأديان اتخذت أبعاداً مختلفة، فهناك مَن أخذ الإيمان الديني كبديل للجوانب الفكرية والأيديولوجية وبطريقة فيها طابع من العقلانية والبُعد الأخلاقي للدين، وهؤلاء يمثلون الأقلية، بينما ظهرت مظاهر التطرف والأصولية في أنحاء مختلفة من العالم، وصبغت جوانب من الصراع العالمي بتلك الصبغة، والفهم المتطرف والأصولي للدين هو جزء من طريقة التفكير والرؤية الشمولية للواقع، ولا يختلف عن الفهم العقائدي الجامد للأيديولوجيا، ولا يصلح أن يكون أساساً لبناء مجتمع مدني أو دولة تتوافر فيها أبسط مقومات الحرية وحقوق الإنسان، يُضاف إلى ذلك، فهو مقصور على فئة معينة من المجتمع، ولا يصلح كوسيلة توحيد أو اندماج لشرائح مختلفة وذات توجهات ثقافية وعقائدية متنوعة.
عدم الجدوى
خلاصة القول إن الأيديولوجيا لم يعد لها أي شأن يُذكر في واقع العمل السياسي على مستوى العالم، وهي عكس التيار الفكري والفلسفي السائد فيه، وأثبتت العديد من مظاهر تطبيقها عدم جدواها وواقعيتها، ولم تغير المجتمعات التي طبقت بها بشكل يذكر، بل بيَّن انهيار الايديولوجية الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى الجمهوريات والدول المكونة له سابقاً، أن ما يقارب من سبعين عاماً من الأيديولوجيا لم يغيّر شيئاً يُذكر في واقع ثقافة المجتمع والأعراق والقوميات المكونة له.. فبمجرد تهاوي النظام الاشتراكي، برزت الثقافات والمعتقدات التقليدية للشعوب المكونة له، بل وبرزت حتى الثقافات القومية والدينية والعرقية داخل روسيا نفسها، وهذا دليل على عدم واقعية الأيديولوجيا، وكونها إطاراً نظرياً مجرداً، وتحوَّلت إلى مسألة نخبوية عند عدد من المفكرين والمثقفين، وأثبتت الأيام أن ثقافات الشعوب وقيمها وسلوكها اليومي أقوى من أي شكل من أشكال الأيديولوجيا، التي تريد أن تحول الواقع إلى ما يجب أن يكون، عبر أفكار نظرية شمولية لا تراعي خصوصيات مكونات الواقع أو الشعوب.