
لكل مجتمع شخصيته أو هويته الحضارية والثقافية، التي تميزه عن غيره من المجتمعات، فهي مجموع القيم التي يؤمن بها من معتقدات دينية وعادات وتقاليد وقيم اجتماعية مختلفة.. إن السلوكيات الفردية عادة ما تكون نتاج مجموعة مبادئ وضوابط أخلاقية مجتمعية مشتركة للمجتمع، الذي ينتمي إليه، وإن السلوك الفعلي للأفراد، إنما يقوم ويعتمد على مقدار إيمانهم بالسلوكيات الجامعة للمجتمع، وقدرتهم، كأفراد، على السيطرة على هذه السلوكيات من عدمه، أي ان إيمانهم بهذه السلوكيات ومقدار ثقتهم بنتائجها الإيجابية عليهم، هو ما يبلور المواقف الخاصة منها والفوارق بين سلوكيات الأفراد داخل مجموعة ما تؤمن بنفس السلوكيات، وعادة ترتبط السلوكيات الفردية منها والجماعية بمقدار ما يتوخى منها من نتائج، وإن مجموع هذه السلوكيات، والتي هي نتاج مؤثرات حضارية وثقافية مختلفة، يعتقد أنها الأدوات التي تحافظ على المجتمع، حيث حددها العالم الألماني سبرانجر بست بمجموعات قيمية، هي: القيم الدينية، القيم السياسية، القيم الاجتماعية، القيم النظرية، القيم الاقتصادية والقيم الجمالية، كما أن هناك تقسيمات أخرى لسنا بصددها هنا.
وحيث إن القيم المشتركة لمجتمع ما، والتي تساهم بتوجه سلوك الأفراد فيه، يختلف تقييمها، إيجابا أو سلبا، من مجتمع لآخر، بل حتى من طبقة مجتمعية إلى أخرى، بالتناغم والثقافة المجتمعية لهم، وهو ما يحدد السلوك المجتمعي العام أو الخاص لمجموعة، منها العادات والتقاليد والأعراف التي اكتسبت أو توارثتها الأجيال والتمسك بها يُعادل أو يفوق أحيانا قوة القانون في مجتمعاتنا، والتي لها آثار سلبية في سلوكيات البعض.. فمثلاً استشراء السلوك الاستهلاكي القاصر في مجتمعاتنا، أي من دون إنتاج، عادة ما ينظر إليه بإيجابية والتفاخر يعلوه، أما في مجتمعات أخرى فقد ينظر إليه بدونية كبيرة، فالكل هناك يجب أن يعمل أي عمل وينتج، وكما أن أكل نوع ما من اللحوم قد يكون مقبولا في مجتمع ما، فإنه قد يكون مرفوضاً تماماً في مجتمع آخر.
وما يهم حديثنا اليوم هو، وباختصار شديد، الجانب السلوكي الأخلاقي الاجتماعي الذي نراه، هو أصل صنع الإنسان المفيد، والذي يكون عماد بناء الأوطان وتقدمها، حيث إننا في تعاملنا مع صفحات التواصل الاجتماعي، مثلا، نمثل مجتمعات مثالية راقية جدا إلى حد الملائكية في جانب، وفي أدنى درجات الانحطاط في جانب آخر، عند الاختلاف، فالكل يعلم أن أغلبنا يستعمل أسماء مزورة لسبب أو لآخر، وأن هذا الإنتاج «الفكري العظيم» من كمية كبيرة من الرعاع، ما هو إلا سرقة أفكار الآخرين، وأن هذه الأخلاق «النبيلة» المصطنعة، ما هي إلا مصيدة ومكيدة لطرف ما، حيث إن الواقع هم ذئاب مفترسة – طبعا لا نعمم هنا في حديثنا، بل إن المقصودين هم أولئك الذين لا تسلم من شرهم في زاوية ما في الحياة العملية – من داخل بيوتهم إلى رعونتهم في الشوارع، التي يحدث فيها العجب العجاب من ألفاظ متدنية إلى تصرفات رعناء، ومن ثم حوادث مريعة وانتقل إلى أماكن عملهم غير المنتج وغير الأخلاقي – هذا إن كانوا مشغولين بشيء ذي فائدة أصلا – فلو دخلت لدائرة لتخلص بعض معاملاتك تجد نفسك في محنة حقيقية، إن كنت من أصحاب المبادئ، حيث إننا لا نحترم موعدا ولا نتقن عملا، متملقين في علاقاتنا، وغير صادقين مع أنفسنا، وغير بارين بأهلينا، والواقع يعكس ذلك بصورة كبيرة.. فما عليك إلا أن تراجع مؤسسة ما، لترى تصرفاتنا، وما عليك إلا أن تركب الطريق، لترى الخطر والطيش بأم عينيك.. اسأل زوجة أحدنا لتعرف أخلاقه، وهنا لا نعني أن كل الشهادات صادقة أيضا، وذلك لنفس السبب.
لم يعد التكافل الاجتماعي همّنا، إنما اللهم نفسي، كما لا يمكن القفز من دون التعريج، ولو بجملة، على أن هناك سلوكيات فردية قد تبدو طبيعية جدا وغير ضارة، لكن الإدمان فيها هو غاية في الخطورة على الفرد والمجتمع، بحد سواء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الجلوس لساعات وراء مختلف الشاشات، وتناسي أو نسيان الواجبات الاجتماعية الفعلية، وبدل الاستثمار الحقيقي المفيد فيها نهدر الزمن الذي هو حياتنا، ليضيع وراء الشاشات، وما لذلك من مخاطر جمَّة على الفرد نفسه والأسرة، وبذلك المجتمع، وسنتناول بعضها بتفصيل أكثر لاحقا إن شاء الله.
إننا في بعض جوانب حياتنا في أزمة أخلاقية عارمة، نحتاج إلى الوقوف فوقها وتأملها جيداً، لإيجاد ما يناسبها من دروس تختلف عما نتلقاه الآن من حيث الشكل، لا المضمون، فالبحث عن أسلوب مختلف ضرورة الضرورات، لأن كمية محاضرات المواعظ، التي نتلقاها على مدار العمر، على اختلافها وتنوعها، لم تعد تفي بالحاجة، كيفاً، فلو تلقاها السويديون، مثلا، لأصبحوا ملائكة حقا، فأين العطب؟ وأين الخلل؟ ومن المؤهل للإصلاح؟
إن مجموعة القيم لمجتمع ما متغيّرة، جزئياً أو كلياً، وإن بدت غير ذلك، فمجموع القيم لنفس المجتمع قبل مئات السنين هي ليست ذاتها اليوم، حيث تصعد قيم وتزول أخرى.
ففي الحقيقة القيم في تطور وتغير مستمرين، حتى وإن كان بطيئا، وهو ما يتماشى وإيمان المجتمع بهذه القيم، وتأثير التطورات الجديدة عليه، وهو ما يؤثر مباشرة في سلوكيات المجتمع، أفراداً وجماعات، حيث إننا نعاني تدهورا قيميا وسلوكيا مجتمعيا خطيرا، فلابد من إعطاء الكلمة لأصحاب الرأي، من مفكرين اجتماعيين وعلماء دين وفلاسفة ومختصين، يصلحون هذا الخراب في الذوق العام، من قول أو فعل، بنشر التوعية بأسلوب آخر غير السائد اليوم، ليرفعوا من بعض القيم القديمة أو المستجدة، كذلك لوضع إطار قيمي إيجابي متغيّر يغربل كل متغيّر، لكي يحتوي تغيرات قيم العصر الإيجابية التي تناسب العصر، وتضيء الطريق وترشد الفكر وتضبط سلوك المجتمع.
التعريج هنا على هكذا موضوع ليس جلداً للذات، وإنما لفتة أخرى، للبحث عن طرق ووسائل جديدة تبث روح القيم الطيبة في المجتمع، التي نرى إحداها تبني سياسة بث برامج تفاعلية وأفلام ومسلسلات اجتماعية تنشر الإيجابية، لتزرعها في الأطفال وجيل الشباب، ونمتنع أو نمنع عن بث كل ما هو عنفي وغير أخلاقي، لأن الشباب عادة يقلدون ما يرون.