
كتب محمد جاد:
غيَّب الموت الأسبوع الفائت كلاً من شاعر العامية المصري عبدالرحمن الأبنودي (1938 – 2015)، والشاعر السوداني محمد الفيتوري (1936 ــ 2015)، وكل منهما قامة شعرية كبيرة في ديوان الشعر العربي.. الأبنودي من خلال قصائده وكلماته، التي تخطت حدود مصر إلى العالم العربي، وخاصة في الأغنيات التي تغنَّى بها كبار المطربين، وعلى رأسهم عبدالحليم حافظ، إضافة إلى معاصرته لأهم الأحداث التي طالت مصر والوطن العربي، من انتصارات وهزائم.
من ناحية أخرى، يبدو عالم الفيتوري الشعري متبنياً قضايا التحرر الوطني، وخاصة المجتمع السوداني، والقضايا العربية الكبرى. ويجمع الرجلين مواقفهما الملتبسة من الأنظمة الحاكمة، حتى إن الكثيرين من النقاد يفرقون بين إنتاجهما الشعري، الذي لا خلاف عليه، وبين مواقفهما السياسية المرتبكة!
استقى الأبنودي موهبته من التربة المصرية، نيلها وشمسها وجنوبها، فمنحته خلود الكلمات عن طيب خاطر. فلا أحد يستطيع أن يُنكر موهبته الشعرية، وتأثير كلماته التي أخذها من لسان الشعب المصري، وأعادها إليه مرَّة أخرى في شكل مواويل وقصائد وأغنيات تعبّر عن حال هذا الشعب، فقد تكلم بلغته، البسيطة السهلة والعميقة جداً في الوقت نفسه، لغة تحمل حضارة هذا الشعب، وطبائع الإنسان المصري الحالم والمُسالم دوماً، والغاضب أحياناً. كلمات حب وأغنيات حزينة وفرحة قلقة، كحال المصريين، وما بين «عدَّى النهار» و«ضحكة المساجين» رحلة طويلة شاهدة على نضال المصريين، وتضحياتهم التي لا تنتهي.
شاعر مجدد
من ناحية أخرى، يعد الأبنودي أحد المجددين في ديوان الشعر العامي المصري، كما حوَّ الأغنية إلى صور غنية بالدهشة، وباكتشاف أبعاد أخرى وطبقات متعددة للحب والموت والفرحة والحياة، وأدخل المفردات والعوالم الشعبية وعمقها العبقري لدائرة الانتباه والاكتشاف بحِس فني لم يزل يثير الدهشة من هذه الموهبة التي من الصعب تكرارها.
من أعماله: جوابات حراجي القط، الأرض والعيال، بعد التحية والسلام، الموت على الأسفلت، وتجميع للسيرة الهلالية من رواتها بصعيد مصر. حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية، كما فاز بجائزة محمود درويش للإبداع العربي لعام 2014.
شاعر القضايا الكبرى
يُعد الفيتوري من رواد الحركة الأدبية العربية المعاصرة، وكذلك من رواد الشعر الحُر الحديث، وتجلَّى ذلك في الكثير من قصائده، ومنها قصيدة «تحت الأمطار»، التي تحدَّى فيها كل ما تنص عليه القواعد القديمة لكتابة الشعر.
وتأثر الفيتوري تأثراً لافتاً بالتراث السوداني، فنجده يتحدَّث عن إيقاع أبياته الشعرية، بأنها تحمل الطبول والدفوف الأفريقية، كما استقى الكثير من المفردات التراثية، وكذلك أثرت فيه تجربة والده وجده الصوفية، ليستقي منها الكثير من الأفكار والمفردات، لكن ما سبق لا يُقارن بما تأثر به من جدته، التي طالما كانت تشكو إليه وهو صغير ما تلاقيه من اضطهاد، بسبب لون بشرتها الأسود، لتزرع فيه حكايات عقدته ضد كل ما هو عنصري واستبدادي.
كما تجلَّى صراع الفيتوري ضد الرق والاستعمار في الكثير من أعماله الشعرية، مناقشاً قضية «الزنوجة»، ونابذا كل أنواع العنصرية، داعياً الزنوج إلى التفاخر بلونهم الأسود، الذي لا يعني أبداً أنهم على درجة أقل شأناً من الرجل الأبيض، الذي كان رمزاً لاحتلال الأوطان في أفريقيا. أما اهتمامه بالحركات التحررية الأفريقية، فكان بطول القارة السمراء وعرضها، داعياً الشعوب إلى التحرر من محتليها، ومن قيودها، ومما يعكس مدى اهتمام الشاعر الراحل بالشأن الأفريقي، هو صدور أربعة دواوين له بعناوين «أغاني أفريقيا 1955»، «عاشق من أفريقيا 1964»، «اذكريني يا أفريقيا 1965» و«أحزان أفريقيا 1966»، ليصبح الفيتوري أحد الأصوات البارزة التي حملت هموم القارة السمراء، وناقشت قضاياها وعكست معاناتها.
الموقف من الأنظمة العربية
في الوقت ذاته لم ينفصل الفيتوري عن هموم العالم العربي، وخاصة القضية الفلسطينية، التي ساندها ودعمها، من ناحية أخرى تعرَّض الفيتوري في شعره إلى الشخصيات التي رأى فيها تجسيداً لأحلامه بالحرية والاستقلال، فكتب شعراً في مانديلا، وبن بلة ورفاقه ممن أشعلوا فتيل الثورة الجزائرية، ولومومبا، كما كتب أيضاً عن هزيمة حزيران عام 1967، متعرضاً لاستبداد الحكام العرب، وفساد الطبقة الحاكمة.
ولهذا دفع الكثير لقاء آرائه ومواقفه السياسية، إلى حد إسقاط الجنسية وسحب جواز السفر السوداني منه في عام 1974، بعد معارضته الشديدة لنظام حكم النميري في السودان، وقامت الجماهيرية الليبية، بقيادة القذافي، آنذاك، بتبنيه ومنحه جواز سفر ليبيا، وعمل مستشاراً ثقافياً للسفارة الليبية بإيطاليا، ثم مستشاراً وسفيرا بالسفارة الليبية بلبنان، ومستشاراً للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا بالمغرب.
وبعد سقوط نظام القذافي، تم سحب جواز السفر الليبي منه، واستمر بالإقامة في مدينة الرباط بالمغرب، إلى أن استجابت السلطات السودانية لدعوات رد الجنسية وجواز السفر السوداني إليه، ومنحته جواز السفر الدبلوماسي.
علاقة الفيتوري إذن بالسلطة تتسم بالتشابك والتعقيد والاضطراب الشديد.. فبينما طرده النميري من السودان، وأسقط عنه جنسيته، قرَّبه إليه القذافي وأعطاه جواز سفر دبلوماسياً، وعينه سفيراً، إلى حد وصفه في أحد قصائده بأنه مثل بعض النبيين! وأعجب به صدام حسين، وقرَّبه إليه، بعد كتابته في بغداد قصيدة «يأتي العاشقون إليك»، ومنحه جائزة قدرها مائة ألف دولار، كما أُعجب به السادات، وتم إدراج بعض قصائده ضمن مناهج بعض كليات الآداب للغة العربية في أواخر فترة السبعينات من القرن الماضي، وكذلك في مناهج اللغة العربية للتعليم الأساسي، منها قصيدتا «من أغاني أفريقيا» و«أصبح الصبح»، إلى أن هاجمه في إحدى قصائده، بعد اتفاقية كامب ديفيد (الراقدون على بطونهم والدجى من فوقهم حجر)، إرضاء للقذافي، الذي كان على خلاف مع السادات. كما هاجم جمال عبدالناصر هجوما ضاريا (قصيدة مات الساعة 6)، وكان صديقاً لبن بلة، رئيس الجزائر السابق، وكتب فيه مدحاً بإحدى قصائده.
من أعماله: أغانى أفريقيا، البطل والثورة والمشنقة، معزوفة درويش متجول، شرق الشمس.. غرب القمر، يأتي العاشقون إليك، قوس الليل.. قوس النهار، نار في رماد الأشياء، عريانا يرقص في الشمس.
حصل الفيتوري على العديد من الجوائز، منها وسام الفاتح الليبي، والوسام الذهبي للعلوم والفنون والآداب من السودا