
حوار: هدى أشكناني
إنسان قبل أن يكون شاعراً، يكتب بصدق عن الحياة والموت، الجمال والبشاعة، الفرح والحزن، يكتب لأن هذا الزمن زمن القتل والعتمة، ولابد أن يُقاوم بالشعر والأمل، يحلم أن يسود الشعر العالم
في الحرب، هو خائف ومرتبك، ككل الأطفال، لا مأوى لديه سوى الكتابة.. «الطليعة» التقت الشاعر وفائي ليلا، ليخبرنا عن مخاوفه وآماله، عن الشعر والعالم.. وكان هذا اللقاء: ● قلتَ في نص من مجموعتك (يعطي ظهره للمرآة) – دار الفارابي 2009- (في الحلم، أتمنى أن أكون إله الموت، لأبيد الجنس البشري!). الأحلام كشف لحقيقة مضمره، بعد 6 سنوات، أما زال هذا الحلم يراودك؟
– ما زال هذا الحلم يراودني.. هذا العالم لا يستحق أن يعاش به، إنه ضيق، وقليل. وعلينا أن نعيد النظر به.. الحروب والمجاعات تنهشه، الفوارق بين الناس، الأمراض والعسكر مهيمنون في كل مكان، ومن ينجو من نخبته يغرق في خدر الرفاه والصقيع الإنساني الخاوي من المعنى، ولربما السافك لدم غيره.. فيسقط أعلى.. هذا العالم ما زال يعيش لحظته الأولى، لحظة الوحش، ولكنه هذه المرة يلتقط له صوره «سيلفي»، وهو يبتسم، ظاناً أنه تقدم.
● كيف تعالج المسافة التي خلقتها الظروف القاسية بينكَ وبين وطنك الأم (سوريا)؟
– أعالج المسافة بتحريض الذاكرة، على أن تبقى، لا أريد لها أن تتهدم، كما فعل النظام القاتل، أو كما يسعى بعض المثقفين، بحجة أن ألماً قبل كان خواء، وما حدث هو جزء منه.. أنا محظوظ، كوني عشت في مدينة كدمشق، وأعرف ماذا يعني ذلك.. أعالج الأمر بمزيد من البحث عن الضوء والعتمة في الصور، وفي المشاهد والناس، وأثبت في ذاكرتي تاريخ بلاد يتم محوها، فقط لأن طاغية لم يرد لها أن تكون سوى على شاكلته، دميمة فقيرة ومتخلفة والبشاعة هي عنوانها، وليست إلا أقبية للقهر والتنكيل بهذا الإنسان السوري الجميل والأنيق والمتحضر، الذي يتم تشويهه بأبشع ما يمكن، وبتواطؤ يكاد يشابه خديعة المسيح بأقرب تلاميذه.
موقف الشعر
● في عصر الحرب التي تدار وتنهش في جسد العالم، أين يقف الشعر؟
– في عصر الحرب يقف الشعر إلى جانب القصيدة، وهنا يحاول عبرها أن يرسم سِفراً للخلاص.. إنه يرسم آياته ومزاميره التي تؤكد على الإنسان وقوة الخير والحب وقوة السلام.. الشعر في زمن الحرب يوقد الشموع، ويحفظ أسماء القتلى وطرق قتلهم، كي ينبه الذاكرة، ويمحو بجناح فراشة كل ذاك الهباب الذي تركته المجنزرات الثقيلة وقنابل المورتر العمياء.. مهمة الشعر في الحرب أن يكون أماً تشفق على طفلين، استخدما لخدمة رجل واحد، يقولون إن اسمه الديكتاتور (غالبا)، نستطيع أن نفهم الموت، وأن نقبله حين يأتي طبيعيا، وليس بفعل فاعل، أو بسبب لعنة اسمها الاحتلال، أو ما شابه.. الموت جزء من الحياة، وهو من ثوابتها.
● كيف بإمكاننا الإمساك بالموت وتثبيته؟ هل الشعر قادر على ذلك أم الصورة؟
– نمسك بالموت، من خلال التمسك بالحياة, عبرها وبها نفهمه، نحاول أن نفك لغزه، عبر إجادتنا للحياة ولمعناها. الموت ذلك السؤال الذي لطالما كان سرا من أسرار هذا الوجود.. بالشعر وحده، لربما نستطيع أن نرسم مدى فداحة جوره، ونتلمس الحياة بتفاصيلها الصغيرة واللامعة التي تجعلنا على قيد الأمل.
خلق بدائل
● كيف تُروّض قسوة العالم/الحياة وأنت وحدك؟
– أخلق البدائل، وأبحث في الظل عن الشمس، أروّض القسوة بالشعر الذي يهبنا لذة الوهم والاحتفاء بالخديعة، وهو لا ينفك يكشف لنا الطرق كلها إلى ما لا نهاية له، وما لا يناله اليأس أو يدركه الزوال. أروّض القسوة، أن أكون الطرف الضعيف والشاعر في معادلة الحياة، لا أريد أن أكون مقاتلاً، أفضّل الاستقالة عن دور المحارب. أدرك أني وحيداً، وأدرك أن إلى جانبي كل ذاك التعاطف الذي تبثه اللغة وتمنحه الموسيقى، ويلوّنه الضوء صوراً.. الحياة تحاول تعويضنا وتعزيتنا طوال الوقت، ربما علينا أن نبحث في عماء هذا التصحر عن زهرة الشغف، لربما البديل هو الانغماس بالإنسان، أو محاولة التطهر من الوحش الكامن عبر الاعتراف والكشف والكف عن المباهاة والتعالي.. أن تعيش من دون وهم «الأنا»، التي تكتسح الجميع، وأن تقبل الهزيمة وأنت تبتسم كانتصار.
● الحياة رغم بشاعتها، لكنك ما زلت تؤمن بالأبيض.. من أين تستحضر الأمل؟
– أستحضر الأمل من إكسير الطفولة وفرح الدهشة، من اختراع الإنسان ذاته كل لحظة، من الصحو كل يوم على فكرة «أول مرة أفعل كذا..»، أستحضر الأمل من الاحتفاء بالجمال، والاعتناء به من التفهم، ومن احتمال الألم ومن الرغبة الحقة بقيمة وأهمية العدل والإنصاف، أؤمن بالضوء والجديد واختراع الإنسان لبدائله، أؤمن بحس الرفق وحس المسؤولية التي يجب عند الكائن.. علينا أن نطرد كل أسباب الظلم والتعسف، ونطهر أرواحنا بكثير من الموسيقى والسلام. ثمة ازدحام هائل على هذه الأرض علينا نحن أن نقف دقيقة، ونكون خيط البياض الذي يرى عكس الميممين جهة الليل.. الشاعر هو ضمير العالم، وقلب البشرية، التي تعنى بالجميع وتشغله المساواة وتؤرقه العدالة.. إنه يخطئ، ولكنه ينهض من جديد، ويسدد بوصلته من جديد.. كثيرون يريدون منه أن يخفق ويتلوث ويكف.. كثيرون يريدونه أن يهزم كي ينتصر الكائن الناهش على فكرة الأفضل الذي يجب، والأجدر الذي يليق.
التحليق والهروب
● تقول «أريد سماء أعلى وغيوماً بلون الأجنحة».. هل التحليق جزء من الهروب؟
– إنه الارتقاء أكثر منه هروباً، أؤمن بمواجهة البشاعة ومحاربة القسوة بنقيضها.. أنا أملك وردة الأمل لهذا الحزن الذي يلف العالم، أؤمن بالمقاعد للجميع، والتذاكر التي يستحقها الكل للوصول.
أعرف أن ذاك يستحيل على الإنسان على مر الزمن، ولكن الشعر يحاوله طوال الوقت.. أؤمن بالحقيقة، حقيقة الكائن وعدم هروبه من تناقضاتها، الذات المتعددة، رغبات وميول وأهداف وسبل تحقق علينا طوال الوقت عدم السقوط بالنمط والأحكام النهائية الثابتة، التي قد تسحق تحت قدمي وثوقها، الاختلاف والتمايز والتنوُّع، الهروب إن حدث، فهو من التورط في التعميم، والحذر من الضرب بيد التأكد والنهائي، لربما تحت ذاك الإطلاق قدر ضئيل من التعسف، أهرب من أن يستخدمني الآخر، نياتي الحسنة وحاجاتي البشرية الطبيعية، التي يحق لي عبر ابتزازي تحقيق غايات سواي، ودفعي إلى هاوية الشطب/ العالم، وطوال الوقت يوظفك في الدور ويمنحك الكثير، ما يلغيك، ويحولك إلى رقم أو قطعة من ترسانته الجهنمية بالسحق.. على الشاعر أن يهرب طوال الوقت من أن يصبح «شيئاً»، ليكن هواء خفيفاً، أو وعود عاشق، أو سراً على جدار معتم، أو حكاية لا يجرؤها أحد، أؤمن بالهروب، ولكنه ذاك الذي يحمّل على التقدم بشجاعة إلى الحياة.
الكتابة والنجاة
● لماذا تكتب؟
– أكتب، لأني خائف ووحيد وضعيف على هذه الأرض، أكتب لأنني لا أجرؤ على أن أقول، ولا أستطيع أن أستأذن بالخروج، أكتب لأنني أخرس وأصم، ولا أملك لغة، وأن هذا الضجيج عالٍ، وتلك اللغة التي تنهش الصمت أعلى. أكتب، كي أسدد كل الحساب إلى هذا العالم وأسبابه، ومن خلفه أو وراء فتنته تلك وقسوته وجماله وجبروته.. أريد أن أسدد كل الفواتير المترتبة على الحضور به والمشاركة، والتي سحقتني طوال سنين عمري.. نحن لا نجرؤ، وكسيحون بما يكفي، وجبناء بما لا يمكن سوى الخجل منه. كثير من قطعان الندم تنهش قلبي وطعم الأمس ثقيل عليَّ، أريد أن أنجو فأكتب، أريد أن أظهر، فأختفي. أقول لإله الأشياء التي تموت ببطء، نحن أضعف مما تظن، وتخضعنا ما لا طاقة لنا به، كتجربة، فارفق.. تنسى أننا لا نملك كل ذاك الحقد، كي نستمر غير آبهين. أكتب صلواتي كل يوم للجمال، للخيبة، وأحاول تلمّس العالم بأصابع اللغة العمياء، شهقات القلب الخُرس.. الكتابة تعويض / جائزة ترضية على أحسن حال.. حين تفقد كل شيء، وتكون أقل من كل شيء، ولا تحظى يدكَ الملوحة في الفراغ لظلٍ.. ليس هو.
أكتب، لأنني بلا أمل، ولا دفاعات، ولا بلاد تحميني، ولا قانون يقف معي ويربت على أكتافي كأب.. أنا فقيد هذا العالم وابنه اللقيط، لا أب حقيقيا كي يعطف، ولا أماً كي تضم.
● حدثني عن أمور لم تتقنها، وجعلت منك مصباحاً منطفئاً، لكنكَ تمكنت منها؟
– لا أتقن أي شيء بالحياة، لم أحظَ بعمل مشرّف، ولا بمكانة تليق، مهنتي كانت بتلك الكلمة التي لم يتح لي أن أقولها، كعادة سرية أو فعل خادش للحياء، أنا مثل كل الجموع التي دفعتها مياه الحياة (العادمة) باتجاه البحر، عادة لا يسمح لك الكبار أن تقول أي شيء حقاً، أو تدافع عن بقعة الظل التي تلقيها الشمس أسفل قدميك.. إنهم ينتزعون وجودك طوال الوقت، وهم يلقون عليك قمصان ندمهم ومآسي لست مسؤولاً عن الدفاع والموت في سبيلها، لم تسمح الحياة بالفرادة.. هذا كل ما في الأمر، وكانت على الدوام تعرض عليك الدور ذاته للجموع، أبحثُ عن دور آخر، ووجه آخر، ومهنة آخرى، وتعاريف ولغة وبلاد.. ولا أعرف كيف سأحقق كل ذلك، ولكنني في خضم المعركة، كل يوم أتحسس جسدي مثل تلك البنت التي نجت من قصف أو مجزرة، والتي تصرخ مذعورة أمام شاشات العالم «أنا عايشة.. أنا عايشة»، في تلك الصورة أجدني.. أجد أنه عليَّ انتهاز الفرصة، والتشهير بالأشياء، قبل أن أفقد لساني، أو أقبل المحو. و
أما عن كوني منطفئاً، فهذا لأن الكثير من الضوء حدث، عُصاب العيش الصاخب، والفارغ والمفتعل، والمرغوب فقط، أريد جانباً أو هامشاً، كي أتكئ أو أختفي.
● مشروع تحلم بتحقيقه؟
– أن أهرب من هذه الأرض، عادةً اللغة تفعل، والحلم يقطع التذكرة.