أستأذن في البداية الإشارة إلى ما تناولة الاستاذ أحمد الديين في مقاله المنشور في جريدة عالم اليوم 2011/10/2، بعنوان «إعادة انتاج الوضع البائس»، وشخّص فيه الوضع الذي تمر به الكويت، مركّزا على آفاق الحراك السياسي الذي تشهده الكويت، ومشيرا إلى أنه في غياب أجندة واضحة للاصلاح الديمقراطي، يتم التوافق على المستوى الشعبي لتحقيقها، لا يمكن تصور أن يؤدي هذا الحراك إلى إحداث تغيير ملموس في الحياة السياسية، حتى لو أدى الى اطاحة رئيس الوزراء وتشكيل حكومة جديدة، أو حتى حل مجلس الأمة واجراء انتخابات مبكرة، اذ ان أقصى ما يمكن أن يؤدي اليه ذلك هو تغيير في الاشخاص، سواء على مستوى رئيس الوزراء، على أهميته وضرورته، او اعضاء الحكومة او اعضاء المجلس، وهذا لن يؤدي إلى تغيير في النهج السلطوي الذي لا يرتبط بشخص وانما بأوضاع قائمة، وبموازين مختلة وبمراكز نفوذ متمكنة وبعقلية سائدة يصعب ان تتقبل التخلي عن الانفراد بالقرار، فلا تغيير في الحكومة ولا انتخابات مبكرة، تعيد انتاج نوعية الأعضاء نفسها وفق موازين الاستقطاب القبلي والطائفي والمال السياسي وتسهيل الخدمات والمعاملات، يحققان الإصلاح المطلوب.
تشخيص الديين للحالة السياسية دقيق وعميق، وهذا الموضوع كان وما زال محل تداول وحوار في الأوساط المهتمة جديا بإيجاد مخرج من الأزمة التي يعانيها البلد. واشير هنا إلى بيان المنبر الديمقراطي الصادر بتاريخ 2011/3/6 الذي جاء فيه «ولا يكفي لإصلاح الأوضاع إحداث تغييرات قشرية أو جزئية، وانما المطلوب التصدى بتغييرات جذرية جدية وملموسة تتناول هيكلية صنع القرار، تستوحي روح الدستور وتدفع عجلة التحول الديمقراطي واستكمال شروطه لتحقيق المشاركة الشعبية في صنع القرار».
وأعتقد أن قوى الحراك الشعبي، وعلى الأخص القوى الشبابية، مطالبة بأن تتوقف للتمعن في تشخيص الوضع وما هي الخطوات المطلوبة، أو ما هي خارطة الطريق لتحقيق الاصلاح المنشود، لكي لا تذهب الجهود سدى.فقد مضى على الحراك السياسي الشعبي قرابة السنتين من دون أن نرى نوراً في نهاية النفق، وبدلا من أن نحقق الاصلاح تصفعنا قضية الايداعات المليونية، ونكتشف أن البلد ازداد غرقا في مستنقع الفساد.
على كل حال، اذا كانت تحديات الاصلاح الجاد تواجهنا على المدى الأبعد من اللحظة الراهنة، فالحوار العقلاني بشأنها يجب أن يستمر ولا يتوقف.
ولكن لنتوقف عند كيفية مواجهة ما كشفت عنه فضيحة الإيداعات المليونية، هذه القضية التي استفزت كل الشرفاء من أبناء أصحاب الضمائر الحية، وأدت إلى استقطاب شعبي واسع استبشع واستنكر المدى الذي وصل اليه الفساد في البلد.
والجديد في هذه القضية، أن المرتشين من أعضاء المجلس ارتفع عددهم وتضخمت مبالغ الرشوة، وتصرفوا علناً وبوقاحة مطمئنين الى أنهم لن يتعرضوا لعائق ولا لرادع، فالبنوك والهيئات الرقابية، بما فيها البنك المركزي، لم تتحرك الا بعد ما نشر في جريدة القبس كجريمة غسل أموال، أو رشوة، ولكن تنال القضية من 13 نائبا، والعدد في ازدياد، نعني أننا أمام جريمة تخريب النظام الدستوري للبلد. والسؤال: كيف نواجه هذه القضية وكيف نستخدم ما بيدنا من ادوات لمحاصرتها وفضحها؟
هناك ثلاثة سيناريوهات مطروحة لمواجهة الإيداعات المليونية، الأول ما طرحه الاستاذ جاسم السعدون، بضرورة أن يبادر النظام الى تغيير الحكومة والمجيء بحكومة جديدة تتصدى للأزمة، من دون انتظار انعقاد المجلس في نهاية شهر أكتوبر. وأحسب انه يقصد تغييرا كاملا لطاقم الحكومة، بما فيها رئاستها، وان تأتي حكومة جادة في مواجهة الفساد.
ولا يبدو أن هذا المقترح سيجد صدى، فنحن نقترب من موعد دور انعقاد مجلس الأمة، والنظام، بحكومته ومؤسساته، ملتزم الصمت، وما نخشاه هو أن الاجراءات لطمطمة الامر واحتوائه ماضية في التنفيذ، والمعروف أن قانون مكافحة غسل الأموال قد لا يكون كافيا لمحاصرة القضية، مما قد ينتج الإفلات من الإدانة، وكان من المفروض، تعبيرا عن الجدية، أن تصدر القوانين المدرجة على جدول أعمال مجلس الأمة لمكافحة الفساد، او بدعوة طارئة لمجلس الامة، او اصدارها بمرسوم اميري، وعدم حدوث ذلك مصدر لإثارة للقلق.
السيناريو الثاني هو الاقتراح المطروح لاستجواب رئيس مجلس الوزراء، باعتباره طرفا، او لعدم القيام بمسؤولياته واستخدام ما لديه من ادوات دستورية للتصدي للقضية، وهذا الاقتراح تتبناه الكتل البرلمانية والقوى السياسية ومجاميع الحراك السياسي الشعبي. وهو اقتراح يتفق مع النهج المطروح منذ اكثر من عامين للاطاحة برئيس الوزراء، ابتداء بقضية الشيكات المدفوعة من رئيس الوزراء لبعض الاعضاء وتداعياتها، ومنها ممارسة القمع اتجاه التجمعات الشعبية.
ورغم ان هذا الاقتراح يحقق رغبة شعبية واسعة، ويلبي اجراء سياسيا مستحقا، وبخاصة ان هناك احتمالا بان يحظى الاقتراح بعدد كاف لسحب الثقة او عدم التعاون، فإنه يعتبر رسالة قوية للنظام للتجاوب مع المطالب الشعبية، وان اي اجراء آخر قد لا يكون مجدياً.
ولكن مع ذلك، لا بد ان نتوقف، ولو قليلاً، للتمعن في تداعيات هذا المسار، وهي ان الذهاب الى الاستجواب قد يستغرق وقتا، فقد يطول لأشهر، وقد تستخدم السلطة اساليب متعددة كتحويله الى المحكمة الدستورية او مناقشته في جلسة سرية، او استخدام الاساليب السابقة نفسها، من اغراءات مادية وخدمات وضغوط، لكي لا يتوفر العدد للنصاب المطلوب لسحب الثقة. وفي حالة استكمال العدد المطلوب لسحب الثقة، تلجأ السلطة الى استقالة الحكومة وتطويل مدة تشكيل حكومة جديدة لأشهر، كما حدث في السابق، او ان يتم حل مجلس الأمة وتُجرى انتخابات مبكرة تعيد إنتاج أعضاء من النوع نفسه، وفي كل هذه الحالات يجري استخدام عامل الوقت لامتصاص الغضب الشعبي وإطفاء لهيبه، وتشتيت الاستقطاب الشعبي، وتنتهي القضية للحفظ في النيابة العامة، كما جرى في قضايا اكبر من هذه، وابرزها قضية السرقات في شركة الناقلات. السيناريو الثالث، هو النظر في تأجيل الذهاب الى الاستجواب، والضغط من داخل مجلس الامة ومن خارجه، بحشود الحراك السياسي لمحاصرة الفاسدين والمفسدين وتعريتهم من خلال تشكيل لجان تحقيق في مجلس الامة، او احالتها الى احدى اللجان، كلجنة حماية المال العام او اللجنة الاقتصادية او لجنة الميزانية، ومن خلال إجراءات التحقيق يجري الكشف عن مزيد من المعلومات وانتزاعها من كل الجهات، ومنها البنك المركزي والبنوك التجارية والجهات الحكومية، الى جانب المضي في اقرار قوانين مكافحة الفساد، بما فيها قانون كشف الذمة وقانون الكسب غير المشروع وتعارض المصالح، لمحاصرة الفاسدين والمفسدين وتعريتهم، واذا تحقق ذلك فقد يؤدي الى النتائج المرجوة من الذهاب الى الاستجواب وفق السيناريو الثاني، اذا ما كشف تحقيق مجلس الأمة معلومات عن إيداعات ومصادر تمويلها.
هذه الخيارات مفتوحة امامنا، ويجب ألا نخشى التمعن والنظر فيها والخوف من ان الخوض في هكذا نقاشات قد يؤدي الى عثرة في الاستقطاب الشعبي. وينبغي الا يغيب عن البال اننا في معركة سياسية كبيرة تجبّ الجانب القانوني الذي هو جزء منها، فنحن امام عملية تخريب النظام الدستوري، وتخريب اجتماعي، وتشويه للحياة السياسية، وتعميق الاحباط لدى الناس وصولا الى مخطط أخطر، وهو تعديل الدستور وتقزيم ارادة الشعب.