
كتب محمد جاد:
في إطار فعاليات «أسبوع الفيلم الفلسطيني»، الذي تنظمه السفارة الفلسطينية بالقاهرة، بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية، المُقام في مركز الإبداع، بدار الأوبرا المصرية، عقدت ندوة بعنوان «تاريخ السينما الفلسطينية»، شارك بها كل من المخرج رشيد مشهراوي، المخرجة عرب لطفي، الناقد طارق الشناوي، وأدار الندوة المنتج حسين القلا.
ونظراً لما تمثله القضية الفلسطينية من أزمة على أرض الواقع، وبالتالي انعكاسها على الفن السينمائي، الذي أصبح النظر إليه والتربص به وفق العديد من المعايير، السياسية والاجتماعية، بعيداً في الكثير من الأحيان عن المعيار الفني للفيلم السينمائي، فإن الفيلم المنتمي للأرض المحتلة، وخاصة من سينمائيين فلسطينيين أصبح مُحملاً برؤية مُسبقة لابد أن تتحقق لدى المُتلقي، وإلا طاردته اللعنات هو وصاحبه!
تطورات القضية الفلسطينية
بدأت المخرجة عرب لطفي حديثها بالتأكيد أن خارطة السينما الفلسطينية شديدة التعقيد، نظراً لتداخل العديد من الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية والجغرافية في مزيج شديد التفرد والخصوصية، إضافة إلى أن كل صناع السينما الفلسطينية، بلا استثناء، ينتمون إلى القضية الفلسطينية، ويؤمنون بِنُبلِ موقفها، لينعكس موقف الاحتلال ووجوده في معظم الأعمال السينمائية، كما أن هناك الكثير من المخرجين – سواء كانوا من البلاد العربية أم غيرها – قد تضامنوا مع القضية الفلسطينية، كجزء من قضايا العالم بوجه عام، فلم يقتصر الأمر على السينمائيين الفلسطينيين وحدهم.
وأضافت أن السينما الفلسطينية بدأت كما في بلاد العالم، من خلال تجارب فردية، كوثائقيات إبراهيم حسن سرحان، وصولاً إلى تجربتين روائيتين، هما «أحلام تحققت» و«عاصفة في البيت»، إضافة إلى أعمال صلاح الدين بدرخان وأحمد الكيلاني، وذلك قبل عام 1948.
التوثيق
واستطردت لطفي مشيرة إلى أن أول عمل سينمائي فلسطيني بزغ في عام 1967، مع بدء حركة المقاومة الفلسطينية، وكان الهدف الرئيسي، آنذاك، هو التأسيس لفكرة توثيق القضية الفلسطينية ومراحلها، ولم يقتصر الأمر على المخرجين الفلسطينيين مثل هاني جوهري ومصطفى أبوعلي فقط، بل امتد إلى مخرجين عرب ساهموا في تأسيس السينما الفلسطينية، بانتمائهم إليها وإيمانهم بها، مثل قيس الزبيدي ومحمد ملص، ولقد ظهر في هذه الفترة العديد من الأفلام الوثائقية شديدة الأهمية، وكذلك أعمال روائية تعبّر عن الذات الفلسطينية، نذكر منها التجربة المتميزة للمخرج المصري توفيق صالح في فيلمه (المخدوعون)، ومع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بدأ يظهر جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين الشباب، وبدأ كل منهم في التعبير عن ذاته، والسعي لتقديم مشروعه السينمائي، بعيداً عن أي مؤسسات أو أحزاب، مثال ميشيل خليفي، إيليا سليمان ومي المصري، وكانت المرَّة الأولى التي يتم فيها التعبير عن الفرد/الإنسان الفلسطيني وعلاقته بالمجتمع من حوله، من دون أن يقتصر الأمر على القضية الفلسطينية، ومدى عدالة مطالبها وظلم الاحتلال وبشاعته، ليتم التعرُّض للقضية الفلسطينية كجزء من العمل، من دون أن يقتصر على الدعاية والطنطنة للقضية الفلسطينية، كما هو معتاد، ولقد عمل هذا على تأكيد حضور الشعب الفلسطيني وذاتيته، والتعبير عن مشكلاته الاجتماعية وظروف حياته اليومية، تأكيدا على هويته، شأنه شأن باقي شعوب العالم.
جيل الشتات
كما أشارت عرب لطفي إلى الجيل الثاني من جيل الشتات، ممن نشأوا في دول أخرى، وأصبحوا امتدادا لذاكرة آبائهم وأجدادهم، لتأتي تجاربهم كمحاولات للتعبير عن انتمائهم للمجتمع الفلسطيني، واختتمت المخرجة الفلسطينية حديثها بالتأكيد أن التعقيد الشديد للخارطة السينمائية الفلسطينية عمل على إثراء التجربة بشدة، نظرا لما بها من تنوُّع واختلاف، يصب بالنهاية في صالحها.
المثالية المزعومة
استهل المخرج رشيد مشراوي حديثه، بتقديم بالغ تقديره لكل ما سبق من تجارب سينمائية، بمختلف توجهاتها، على الرغم من أن الكثير من هذه التجارب تم إنتاجها خارج الأراضي الفلسطينية، كما أنها كانت مُسيَّسة من قِبل بعض الأحزاب السياسية التي تمولها، لكن في الوقت نفسه هناك العديد من التجارب التي حاولت الخروج من هذه الدائرة.
وأكد مشهراوي أن رؤيته الشخصية تؤمن تماماً بأن مثل هذه الأفلام المُسيَّسة ذات الطابع الدعائي لن تصلح مُطلقا لمخاطبة العالم، فتقديم المواطن الفلسطيني في صورة الشهيد/البطل/المظلوم لن يصلح لإقامة حوار مع العالم، وعلى الرغم من اعتراف مشهراوي بأهمية ونبل القضية الفلسطينية، فإنه يختلف مع هذه النوعية من الأفلام في طريقة التعبير عنها، حيث يتم تقديم الشخصية الفلسطينية بطريقة إيجابية دائما في مثل هذه النوعية من الأفلام، كما أنه يؤمن بأن تقديم سينما مدعومة من ياسر عرفات أو منظمة فتح أمر لا يجوز ومرفوض تماما.
الصورة الحقيقية
ويرى مشهراوي أن تقديم صورة المجتمع الحقيقية أكثر أهمية وجدوى من الأعمال الدعائية والخطابية، وتذكر المخرج تجربته السينمائية «دار ودور»، التي عبَّر فيها عن المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني، ومدى الضعف الذي نال من المجتمع.. وحين تم عرض الفيلم في تونس، لاقى عاصفة من الاستياء الشديد، حيث في نهاية الفيلم يبكي الرجل الفلسطيني، فيما لا يصح أن تبكي الشخصية الفلسطينية في عرف هؤلاء، حيث من المفترض أن يجسد دائما المثالية المطلقة، بينما يرى مشهراوي أن الشخصية الفلسطينية شأنها شأن شخصيات المجتمعات الأخرى، فهناك الشريف والبطل والجبان واللص والعميل والمنحرف ومن يضرب زوجته، من دون كلشيهات أو شخصيات ذات بُعد واحد، فليس هناك الخير المطلق، وكذلك لا يوجد الشر المطلق.
وأشار إلى أن الفيلم نفسه كما لاقى استياء شديدا من قِبل الكثير من الفلسطينيين، للأسباب السالف ذكرها، فإنه لاقى استياء الإسرائيليين بشدة، فقد أزعجهم بشدة تقديم صورة مغايرة لما هو معتاد عن المجتمع الفلسطيني، والحديث عن الحياة نفسها والعلاقات الاجتماعية، من دون الطنطنة الخطابية للقضية الفلسطينية، وانطلقت الآلة الإعلامية للاحتلال، لتكذيب ما طرحه الفيلم من أفكار مظاهر الحياة في فلسطين، مستنكرين أن يبدو الشعب الفلسطيني مثله مثل باقي الشعوب، يبحث عن الحياة، وعن الطرق المثلى لتربية الأطفال، وما يلاقيه الأهل من صعاب في سبيل ذلك.
سلاح الكاميرا
ويُرجع مشهراوي السبب الرئيس في تغيير توجهات السينما الفلسطينية إلى انتقال السينما من الخارج إلى داخل البلاد، حيث انتقلت الكاميرا من يد المغتربين بالخارج إلى يد المقيمين في الأراضي المحتلة، وتذكر ما قام بتوثيقه أثناء انتفاضة غزة الأولى، حيث كانت الأولوية لدى الجندي الإسرائيلي إطلاق الرصاص على الكاميرا وحاملها، قبل إطلاق الرصاص على مَن يقذف عليه الحجارة، لأن الكاميرا هي دليل إدانته التي تنقل وتوثق جريمته، حيث الحجارة في مواجهة الرصاص. وأضاف أن السينما ليست وسيلة، بل غاية في حد ذاتها، وأنه يتفق في النهاية مع المخرجة عرب لطفي، في أن الشتات الفلسطيني الذي يُعَد أحد النتائج المأساوية للاحتلال الإسرائيلي له جانب إيجابي، وهو تنوُّع المدارس السينمائية الفلسطينية.
الهوية والأفكار المغلوطة
من جهته، أشار الناقد المصري طارق الشناوي إلى أن مصر هي أول دولة أقامت علاقة التطبيع مع إسرائيل، بعد اتفاقية كامب ديفيد، لكن على الرغم من القرار الرسمي للدولة، فإن المثقفين وقفوا حائلاً أمام هذا التطبيع، وعلى الأخص التطبيع الثقافي، وأكد أنه على الرغم من وجود تجارب إسرائيلية تناصر القضية الفلسطينية، وتقدم صورة إيجابية لها وللمواطن الفلسطيني، فإن جنسية الفيلم «الإسرائيلية» لا تزال تقف عائقاً أمام تقبّله، وضرب مثالاً على ذلك بفيلم «زيارة الفرقة الموسيقية»، الذي قدَّم صورة شديدة الإيجابية عن المصريين، كما أن رسالته جاءت كي تخالف ما هو سائد في المعتقد الإسرائيلي، فيدعو إلى التعايش والتفاعل مع الآخر، ونتيجة لهذا بدأ البعض، آنذاك، في الدعوة إلى عرض الفيلم على نطاق واسع، وفقاً لما يتسم به من إيجابية، والخروج به من نطاق عرضه شديد الضيق، (حيث تم عرضه في قاعة صغيرة بأحد الفنادق).
وضع ضوابط
ويرى الشناوي أن السبيل الوحيد، هو أن يكون هناك قرار من اتحاد الفنانين العرب، والنقابات الفنية كلها، كي يتم وضع ضوابط لمثل هذه المشكلة، فالمواطن الفلسطيني الذي يدفع الضرائب لإسرائيل، من حقه أن يحصل على حقه في صندوق دعم الدولة للمشاريع السينمائية، ليظل فيلم هذا المواطن الفلسطيني «الشريف» محل جدال ومشكلة.
واختتم الشناوي حديثه بضرورة التواصل مع كل الاتحادات الفنية، لوضع ضوابط تحدد ما يمكن أن يتم عرضه في المهرجانات العربية من أفلام تحمل الجنسية الإسرائيلية، سواء كان صانع الفيلم فلسطينيا مُجبرا على حمل جواز السفر الإسرائيلي، كي يعيش في وطنه المُغتَصَب، أو كان صانع الفيلم إسرائيليا صاحب رسالة إيجابية تجاه القضية الفلسطينية، والعالم العربي بوجه عام.