
كتب محمد جاد:
ألقى الشاعر والمفكر السوري الكبير أدونيس محاضرته خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 46، والتي جاءت ضمن ندوات ومحاضرت العديد من المفكرين المصريين والعرب، تحت عنوان عريض هو “تجديد الخطاب الديني”. وتعرَّض أدونيس لهذه المقولة بشيء من النقد في البداية، إذ رأى أن الأمر ما هو إلا تجديد لتأويل النص الديني، فالتأويل هو ما يتم تحديثه من فترة لأخرى.. أما الدين نفسه، فلا مجال إلى ذلك مطلقاً.
أول أخطائنا
أكد أدونيس أن الإنسان اليوم لا يبحث إلا عن “المساواة”، والعدالة المفترضة لإقامة هذه المساواة، رافضاً تماماً منهج “التسامح”، الذي يعطي أفضلية لجماعة ما تملك حق التسامح، وتمنّ وتتعطف وتتكرَّم بهذا الحق على الآخرين، كما أكد أن العالم العربي لا يزال يحيا على ثقافة القرون الوسطى، وهي ثقافة الغزو والفتوحات، هذه الثقافة التي تحمل في طياتها ما تقضي به من المفهوم الصحيح وغير الصحيح والحقيقي وغير الحقيقي للدين الإسلامي، وهذا كلام لا معنى له، فهناك ديانة إسلامية لا تتجزأ، لكن لنا أن نقول إن هناك مسلما متشددا متطرفا، ومسلما معتدلا، وفق التأويل والتفهم للنص الديني.
وأشار أدونيس إلى أن الحق والحقيقة دائماً ما يأخذان مبادرة الهجوم، فيما الوضع في هذا الشأن يبدو معكوساً، حيث يبدأ المتطرفون بالهجوم، ونكتفي نحن فقط بالدفاع، وهذا أول أخطائنا تجاه هذه القضية المهمة.
ويستطرد الشاعر الكبير، فيقول إن الهجوم يقتضي أن يكون وفق مشروع منظم له آليات وأهداف محددة.. فأين هذا المشروع اليوم الذي يجب أن يقف في وجه التطرف الديني، بكل أشكاله؟ وتساءل؛ أين الأنظمة العربية التي تدَّعي وقوفها في وجه التطرف ورفضها له؟ لتفاجئنا الحقيقة، بأن هذا المشروع ليس له أي وجود.
مأزق الآخر
وأضاف أدونيس أن البشر الذين يعيشون في هذه المنطقة الحضارية الفريدة من العالم (مصر، سوريا، العراق ولبنان) تنتمي حضارتهم اليوم إلى الحضارة العربية، وعهد الغزو والفتح الذي كان يسود القرون الوسطى، فالتقاليد إسلامية تشدد على أن “الإسلام يجبُّ ما قبله”، وهو ما يعني، ضمنياً، أنه أيضاً “يجبُّ ما بعده”! وكأن “الآخر” لا وجود له، ويقتصر تصنيفه بين ثلاث حالات، فهو إما “ذمي”، وإما “كافر”، وإما أحد الذين تم غزو بلادهم وتم “إدخاله” إلى الإسلام بالقوة.. فأين مسؤوليتنا الإنسانية إذن نحو هذا “الآخر”، ونحن نراه ونتعامل معه وفق هذا المنطلق؟
وما يدعو للأسف، أن هذه الصورة تتسق تماماً مع التاريخ العربي الإسلامي الدموي، حيث لم تتوقف الحروب “العربية – العربية” منذ قيام الدولة الإسلامية الأولى، وما إرهاب اليوم، إلا تنويع جديد للإرهاب السائد قديماً، وما قضايا “الحسبة” وقضايا “التكفير” إلا استمرار لما كان يحفل به التاريخ الإسلامي.
الإيمان بالآخر
ويرى أدونيس أنه من المستحيل أن يكون هناك أي شكل من أشكال الديمقراطية في الوطن العربي، في ظل الظروف الحالية، وأن المظاهر القليلة التي توحي بذلك، هنا أو هناك، لا ترقى أبداً إلى المفهوم الواسع والشامل للديمقراطية الحقيقية، حيث تسود المجتمعات العربية كلها مفاهيم “الأسرة” و”القبيلة” و”العائلة” و”المذهب”، ليصبح مفهوم “الفرد” غير موجود تماماً، وهو المفهوم الذي تقوم على حريته واستقلاله فكرة “الديمقراطية”، لتصبح النتيجة أن “الفرد” العربي يتم قتله وانتهاك حريته وكرامته الإنسانية، من دون أي عواقب، والشرط الأول للديمقراطية لا يتوافر في مجتمعاتنا العربية، وهو شرط “الإيمان والاعتراف بالآخر”، حيث يأتي الاعتراف بالآخر جزءا لا يتجزأ من الحقيقة، فـ “أنت” و”الآخر” يشكلان الحقيقة، وهذا ما نفتقده في المجتمع العربي، وعاد إلى وجوب القطيعة مع ثقافة القرون الوسطى، ثقافة الغزو والفتوحات، والمَنّ بالتسامح مع الآخر، “هذا إذا ما أردنا الخروج من هذه الدائرة المفرغة”.
غياب العقل النقدي
من ناحية أخرى، أكد أدونيس أن غياب العقل النقدي عن الشعوب العربية يعود إلى نوع الحضارة التي يعيشها، فما نحن إلا جماعات نعيش على ما يقوله السلف.. وعلى الرغم من انبهارنا وتهافتنا على اقتناء كل ما هو جديد ومتطور علمياً، فإننا في الوقت نفسه ننكر الأسس العلمية التي أدَّت إلى هذه الاكتشافات والاختراعات الحديثة.
وسواء كان هذا الإنكار والرفض التام نتاج الوعي أو اللاوعي، ليصبح الإنسان العربي شيئين متناقضين في جسد واحد، فنجده يعيش في عالم، ويفكر في عالم آخر تماماً. ومن اللافت أن الإنسان العربي دائماً ما يفكر في أخطاء الغير، فلا يعترف بأخطائه، أو يرى نفسه يخطئ أبداً، ولعل هذا السلوك يفسر غياب “أدب الاعترافات” من محيطنا الثقافي، فدائما ما يرى “المسلم” نفسه على حق، وأن “الآخر” على خطأ دائماً.
وأكد أدونيس أن الخطوة الأولى للخروج من هذه الدائرة المفرغة، أن يثور الإنسان على نفسه أولاً، حيث هذه هي الثورة الحقيقية، التي من دونها سنظل نأكل بعضنا بعضا، كما يحدث اليوم.
وأشار إلى أنه دائما ما يكره الوعظ والإرشاد، مؤمناً بأن أعظم معلم للإنسان هو نفسه، فقط إذا توافر فيه الصدق الكافي بينه وبين نفسه، فيما الثقافة العربية السائدة لا تؤسس إلا إلى الكذب والخداع والرياء.
محاولة الخروج من الأزمة
قام أدونيس بطرح مشروعه القائم على أربعة محاور؛ أولها أن يكون هناك ما يمكن أن نطلق عليه بـ “القطيعة”، وهي التي يجب أن تقوم بين القراءة السائدة والمتعارف عليها للنص الديني، حيث تسود القراءة “الدموية”، بدلاً من “الرحمة” التي طالبت بها كل الأديان.
وشدد الشاعر على احترامه لكل المتدينين، ومساندته لحرية الفرد في اعتقاد ما يريد، طالما أن هذا الفرد لا يسعى إلى فرض مظاهر تدينه أو معتقده أو نمط تفكيره على “الآخر”، على الرغم من عدم إيمان الشاعر أو تدينه.
كما أكد أن القطيعة الأولى يجب أن تكون بين فكرة “الإسلام دين ودولة”، حيث يرى أن الإسلام “رسالة”، وأنه في حال تحوله إلى “دولة” فإنه سيتورط في دائرة لا تنتهي من العنف والدموية، وهي الدائرة التي ترتبط دائما بمفهوم “الدولة” أو “السلطة”، لتتحول “الرسالة” إلى “نظام قمعي” وتبتعد عن هدفها “الروحي والمعرفي”، الذي من المفترض أن تقوم به، وتصبح الرسالات السماوية مجرد سجن للبشر، وليست مجالاً يفتح آفاق الحرية للإنسان، كما هو مفترض. وأشار إلى عدم وجود أي نص يشير إلى أن “الإسلام دولة”، حتى في الأحاديث النبوية، التي تعرَّض فيها الرسول إلى كل شيء، حتى الأمور شديدة الخصوصية، لكننا نجده لم يتحدث، مطلقاً، عن “دولة إسلامية”، وترك أمرها للمسلمين، عملاً بمبدأ “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.
أما المحور الثاني، فيتلخص في إنشاء “جبهة علمانية” للمجتمع العربي، تقوم على إعادة قراءة كل ما هو “موروث”، مشدداً على أن تغيير المجتمع أكثر أهمية من تغيير السلطة أو النظام الحاكم، حيث يأتي تغيير السلطة ضمناً مع تغير المجتمع، كمفهوم أكثر شمولية، يحتوي بداخله على تغيير السلطة الحاكمة.
وثالث هذه المحاور، هو تحرير الثقافة العربية من حالتها “الوظيفية” إلى “الموضوعية”، وتحويلها إلى ثقافة “البحث والابتكار”، كي تقوم بدورها المُفتَرَض تجاه المجتمع الإنساني.
وآخر المحاور، هي “الديمقراطية”، التي لا مفر منها ولا بديل عنها، فمن دونها لن توجد “الحرية” ولا “المساواة”.