المشهد السياسي الكويتي وتطوراته لا يبشران بخير، فلا ضوء في نهاية النفق فأزمتنا تتسع وتتعمق، وقضايانا، أو بالأحرى، مشاكلنا تزداد تشابكا وتعقيدا.
فقبل أسابيع كان عنوان الأزمة الايداعات المليونية التي أثارت سخطا واستياء شعبياً واسعاً، ثم تلتها قضية الاضرابات لزيادة المرتبات التي طفت على السطح بسبب تخبط النهج الحكومي في أسلوب المعالجة الذي أدى إلى تفاوت في جداول المرتبات بين فئات العاملين في القطاع العام، فلجأت الفئات المغبونة إلى الإضرابات مطالبة بمساواتها بمن رفعت مرتباتهم، وخضعت الحكومة صاغرة وبلعت تهديداتها باستخدام الحزم، وربما العنف وقوى الأمن لمعالجة اثار الاضرابات على توقف العمل في بعض الجهات.
وفيما نحن منشغلون بكل ذلك، فإذا بنا نواجَه بتفجر لغم آخر في ملف الحكومة، أو رئيس الوزراء، عندما عرض النائب مسلم البراك في اللقاء الجماهيري الذي اعتبر أكبر تجمع في تاريخ الكويت، إذ تراوح فيه الحضور ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً، حيث عرض البراك بتكتيك بارع ما حصل عليه من معلومات وبيانات حول تحويلات رئيس الوزراء وديوانه بلغت 70مليون دينار. جداول البيانات التي تناقلتها وسائل الاتصالات الاجتماعية أقل ما يقال فيها انها اثارت الشبهات، والكثيرون اعتبروها إدانة، مما زاد من مشاعر السخط والاستياء التي حركتها قضية الايداعات.
ولم ينفع بيان وزير الخارجية بالنيابة في إطفاء لهيب تلك المشاعر أو تهدئتها، خصوصا وانها جاءت من وزير لا يحظى بثقة المحتجين والساخطين. ثم، تبع ذلك صدور قرار من المحكمة الدستورية بشأن استجواب رئيس الوزراء المقدم من النائبن أحمد السعدون وعبدالرحمن العنجري، فازداد الجو اشتعالا بإثارة جدل قانوني ودستوري وسجال سياسي، فالعديد من القانونيين انتقدوا القرار واعتبروه غير ملزم، لأنه قرار ذو طبيعة تفسيرية وليس حكما ملزما، وينبغي عرضه على مجلس الأمة لابداء الرأي فيه، كما وجهت للقرار انتقادات بأنه قد يؤدي الى تحصين رئيس الوزراء من المساءلة والمحاسبة، وهو ما يتناقض مع مبادئ وأسس النظام الديمقراطي الذي يقوم على أساس جوهري، وهو مساءلة السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وبالدرجة الأولى رئيس الوزراء.
ثم جاءت الجلسة الافتتاحية لمجلس الامة لتزيد الامر تعقيدا،ً فمن جهة أكد النظام وحكومته على الاصرار في المضي في النهج نفسه الذي سارت عليه الحكومة، وكأن شيئا لم يكن، متمسكاً بموقف لا أرى لا أسمع ولا أستوعب، وان استقالة شخصية من وزن الشيخ محمد الصباح، وهو الممثل لجناح أساسي في أسرة الصباح، تعتبر أمراً عاديا، فيما الاجماع انه ليس أمراً عادياً خصوصاً وانه جاء إثر كشف تحويلات رئيس الوزراء عبر وزارة الخارجية، وفُسِّرت بأنها كانت تتم من وراء ظهره.
اذن الحكومة سادرة وماضية في غيها، فماذا عن النواب المحتجين؟ هؤلاء يملكون قضية رابحة في مواجهة الحكومة، ولكن يخشى ان أسلوبهم في التعامل مع قضية الايداعات والتحويلات قد تفلت ويفسح المجال للحكومة والموالين لها للفلفة القضية وطيها بدلا من استخدام أسلحة المجلس وأدواته لاستثمارها في محاصرة الفساد والمفسدين، فنكون بذلك كمن ضيع صيده بعجاجه.
تمنيت الا تقاطع مجموعة النواب السبعة عشر جلسة المجلس والامتناع عن المشاركة في اللجان، اذ انه بدلا من ذلك كان يجب استخدام اللجان، كاللجنة المالية ولجنة الميزانيات، الى جانب تشكيل لجنة تحقيق، كمواقع يستفاد منها لمحاصرة أطراف الفساد وتعريتهم، والعمل على انتزاع أكبر كم من المعلومات والبيان عن الايداعات والتحويلات كي يكون الرأي العام على بينة من هذه الشبهات.
هذا الى جانب إقرار منظومة من قوانين محاربة الفساد كقانون كشف الذمة المالية وإنشاء هيئة مكافحة الفساد وقانون الكسب غير المشروع واللائحة التنفيذية للاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي انضمت اليها الكويت قبل ست سنوات.
حال النواب المحتجين الآن مرتبك، فهم مقاطعون وغير مقاطعين، فقد قاطعوا اللجان ثم دخلوا لاقرار كادر المعلمين، ثم بعد ذلك مازالت خطة تقديم الاستجواب قائمة، فاذن هم غير مقاطعين، أو نصف مقاطعين.
اتمنى ان يراجعوا موقفهم، وان يأخذوا بعين الاعتبار انعكاس تصرفاتهم على الرأي العام، وألا ينحصر اهتمامهم في التجمعات فقط التي على أهميتها قد تكون معزولة، مهما كان عددها، ان لم تكن معبِّرة عن قطاعات واسعة من الشعب تقف مساندة ومؤيدة لها.
أؤكد، واتمنى، وارجو من السادة النواب المحتجين التفكير مليا، وبتؤدة، في استخدام كل ما يتاح من أدوات وأسلحة قانونية في مواجهة الفساد، واني على يقين ان كل ابناء الشعب الحريصين على مصلحة البلد سيقفون وراءهم.
بالنسبة لكثير من الناس، ما أثير حتى الان يقع في خانة الشبهات، والمطلوب الان كشف باطن هذه الشبهات ومعرفة اطرافها. وأتمنى عليهم التوقف عن اطلاق المطالب والشعارات من فوق منابر التجمعات من دون ان تسبقها دراسة وتمعن وتشاور، وهذا ما حصل مع الأسف في الاجتماعات الجماهيرية، وأنا أقول ذلك عن علم وليس عن تخرص أو كلام منقول، وأرجو ان يراعوا عدم مفاجأة الناس بمطالب أو مواقف تملى عليهم من دون مشاركة في اقرارها أو التشاور بشأنها، فهذا إثارة اقل ما يقال عنها انها سلبية حتى لا أزيد.
والرد على القائلين باننا كيف نتوقع من مجلس فيه هذا العدد من المفسدين اقرار قوانين مكافحة الفساد وتشكيل لجنة للتحقيق، نقول إن ذلك ممكن بضغط الغضب الشعبي الذي يملأ مشاعر الكويتيين، وفي حالة قيام الحكومة، أو الموالين لها، بعرقلة هذه المساعي، فان ذلك يفضح المعرقلين وبكشفهم، وفي ذلك مكسب.
وأشير الى أن معظم، ان لم يكن كل، المكاسب التي تحققت من خلال المجلس جاءت من مجالس فيها حكومة وموالون وأعضاء فاسدون.
لم يحصل في مجالس الامة أن كانت هناك اغلبية للمعارضة، وما تحقق من مكاسب كان دائما عبر أقلية في المجلس يساندها ضغط شعبي. وهذا سيستمر معنا الى آماد ربما تكون طويلة، المهم ان نحسن إدارة المعركة السياسية بحنكة وباستخدام ما يتوفر من أدوات، وأهمها الضغط الشعبي.