
كتب عبدالله التميمي:
«من خصائص الفلسفة، أنها تظل دوماً تلاحق موضوعاتها، وتطاردها في بيوتها الجديدة، فتتلوَّن بلونها، وتتطوَّر بتطورها، وتغتني بتقدُّم البحث فيها. إن هذا، بالضبط، هو سر بقاء الفلسفة حية على الدوام، متجددة باستمرار».
محمد عابد الجابري (مدخل إلى فلسفة العلوم)
لا يختلف اثنان على علو كعب الجابري في الفكر العربي، وأنه علم من أعلام هذا الفكر بالقرن العشرين، حيث اكتسب هذا الزخم أساساً، بعد سلسلته الشهيرة «نقد العقل العربي»، وكان أهمها هو «تكوين العقل العربي»، بعدها أخذ الجابري يتجه بشكل كبير نحو التراث، والقراءة في الموروث الإسلامي العربي، رغم أنه كتب كتابات قبلها، من بينها الكتاب الذي نستعرضه «مدخل إلى فلسفة العلوم»، الذي كتبه في عام 1976، وقد كتب الجابري كتابه هذا بعد أطروحة الدكتوراه عن «ابن خلدون» في سنة 1970.
ولم تأخذ كتابات الجابري في تخصص الابستمولوجيا أو نظريات المعرفة أو فلسفة العلوم، حيزاً كافياً من القراءة، رغم أن هذا المدخل هو مُعتمد الجابري في نقده للتراث، كما هو واضح في مقدمته التي قدّم بها لكتابيه «نحن والتراث»، ثم «تكوين العقل العربي»، حيث أدخل أدوات الابستمولوجيا الغربية، وأسقطها على دراسة التراث، وهو ما جعل العديد من المفكرين ينتقدون هذه الطريقة في أعمال الجابري، ومنهم الفيلسوف المغربي د.طه عبدالرحمن في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث»، الذي هو أيضاً أستاذ للفلسفة في كلية الآداب في جامعة الرباط، كما هو الجابري، وإلى جانب المتخصص في نقد الجابري، المفكر والناقد السوري جورج طرابيشي وسلسلته «نقد نقد العقل العربي».

مُشكل الابستمولوجيا
تعرض الجابري في بداية كتابه، الذي نستعرضه (مدخل إلى فلسفة العلوم) لمُشكل «الابستمولوجيا»، فهي بالفعل مُشكلة، حتى من حيث تعريفها، فهي تبحث في نظريات المعرفة، لذلك تم تعريفها تعريفات مختلفة، باختلاف المدارس المعرفية، من حيث هي وضعية، كوضعية المفكر الفرنسي أوغست كونت، التي أضربت عن دراسة الفلسفة الميتافيزيقية، التي لم يستطع الفكر البشري أن يعرف جوهرها وكنهها، لذلك، يجب أن يتوجه الفكر البشري، برأي هذه المدرسة، لدراسة الظواهر، والقوانين المتحكمة فيها، بدلاً من تيه الميتافيزيقا وكثرة تشعباتها، ثم تعرَّض الجابري لدراسة الوضعية الجديدة، وما تفرَّع عنها من مدارس، أو من حيث التعرُّض للمعرفة ونظرياتها من المدرسة التطورية، ومن رؤوسها في المجال المعرفي هربرت سبنسر، الذي نادى إلى معرفة موحّدة تجمع شتات العلوم، معتمدةً على قانون التطور، فمهمة الفلسفة «هي تلخيص النتائج العلمية، وترتيبها في وحدة شاملة، اعتماداً على قانون التطور، الشيء الذي يضع أمامنا صورة واضحة عن ماضيها، وعن آفاق مستقبلها».
ويرى الجابري أن التطورية، كما طرحها سبنسر، لم يعد أحد يتبناها، وإنما التطورية، كما طرحتها المدرسة الجدلية والماركسية، هي الوجه السائد من هذه المدرسة، وأُضيف على ما ذكره الجابري (التطورية بمفهومها العلمي البيولوجي)، فهي أيضاً لاتزال سائدة تتبناها الكثير، بل لا نبالغ إن قلنا إن أغلبية الأكاديميات العلمية، مع وجود معارضين لها طبعاً داخل صروح تلك الأكاديميات.
الفلسفة المفتوحة
وتعرَّض الجابري للعديد من المدارس والأفكار الأخرى حول نظريات المعرفة، ويهمنا هنا أن نركز على «الفلسفة المفتوحة»، التي برأينا صاغت العقلية الجابرية بشكل كبير، وهي المدرسة التي نادى بها العالم الرياضي السويسري فردينان كونزت، وتبناها وطوّرها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، «كما تلتقي معها، في عدة جوانب الابستمولوجيا التكوينية»، التي دعا لها الفيلسوف وعالم النفس السويسري جان بياجي.
وهذه الأسماء الثلاثة، تُعيد لنا الذاكرة القديمة، عندما قرأنا أعمال الجابري للمرة الأولى في سلسلته الشهيرة (نقد العقل العربي)، حيث ذكر هذه الأسماء التي أسست الفلسفة المفتوحة والتكوينية في بداية سلسلته، وأخذ الجابري أدواتهم البحثية لنقد العقل العربي، وعليه، نرى أن هذه الدراسة التي نستعرضها «مدخل إلى فلسفة العلوم» أثرت في تشكيل وصياغة العقلية الجابرية النقدية إلى حد كبير جداً، خصوصاً في ما يتعلق بالفلسفة المفتوحة والتكوينية.
وخلافاً لما يقوله البعض، عن الجابري كان يتبنى المذهب الأرسطي ومذهب ابن رشد (الرشدية)، فالذي يتفحص كتب الجابري يلحظ أنه إنما كان معجباً بابن رشد، مقارنة بما وصل إليه عصره من علم، ومقارنة بغيره من أعلام التراث العربي، كابن سينا والفارابي، اللذين غلب عليهما المذهب الباطني، والفقهاء الكلاميين، كالغزالي، الذي غلب عليه التصوف الكلامي، فابن رشد – برأي الجابري – جوهرة وسط هؤلاء، بل هو الممثل الشرعي للعقلانية في تلك العصور.. أما في عصر الجابري، فإن ابن رشد والمذهب الأرسطي قابلان للمراجعة تحت مبدأ «الفلسفة المفتوحة»، فهي قمة ما وصلت إليه العقلانية، كما يظهر لمن يستقرئ كتب الجابري.
وتعتمد الفلسفة المفتوحة أولاً على ما قدَّمه كونزت، من أن أي أفكار مهما كانت «لابد أن تقبل المراجعة»، و«أن الفكر يجب أن يبقى دوماً مفتوحاً، مستعداً لتقبل أي فكرة جديدة وأي ظاهرة تتناقض مع الأفكار المسلّم بها قبل. ومن هنا، فإن المبدأ الأساسي في كل فلسفة مفتوحة، مبدأ: القابلية للمراجعة الذي يدعو العالم إلى أن يبقى مستعداً باستمرار لإعادة النظر في مبادئه وأفكاره ومناهجه، لأنه ليس من الحكمة اعتبار أي قانون، مهما كان، قانوناً ضرورياً مطلقاً».
وقد تأثر الجابري بغاستون باشلار بقوة أيضاً، ولا أثر أكثر من أن يسمي أهم أعماله في سلسلة «نقد العقل العربي» باسم شبيه بأحد مؤلفات غاستون باشلار، حيث إن أول كتاب في سلسلة الجابري كان «تكوين العقل العربي»، وهو عنوان شبيه بعنوان كتاب باشلار «تكوين العقل العلمي»، الذي هو أيضاً جزء من سلسلة مكونة من أربعة أجزاء.
«ولقد وصف باشلار فلسفته بأنها فلسفة النفي، وذلك هو عنوان أحد كتبه»، حيث إنها «الفلسفة التي تقول لا لعلم الأمس وللطرق المعتادة في التفكير، ولا تأخذ البسائط، أي الأفكار البسيطة، على أنها أفكار بسيطة فعلاً يجب التسليم بها من دون مناقشة، بل إنها تجتهد في نقد هذه البسائط نقداً جدلياً، لتكشف عمّا تنطوي عليه من لبس وغموض».
وباشلار هذا هو صاحب المقولة الشهيرة «تاريخ العلم هو تاريخ اللاعلم»، أو بعبارة أخرى «تاريخ العلم هو أخطاء العلم»، و«بهذه الطريقة تصبح الموضوعات العلمية عبارة عن مجموع الانتقادات التي وجهت إلى صورتها الحسية القديمة».
وبياجي، صاحب المدرسة التكوينية اهتم بمسألة تطور ونمو المعرفة، وأن خطأ الفلاسفة المتعاقب باستمرار هو بحثهم المتواصل عن الحقائق النهائية الكاملة، «فإنه لابد من النظر إلى المعرفة، أي معرفة، من الناحية المنهجية، بوصفها نتيجة لمعرفة سابقة بالنسبة إلى معرفة أكثر تقدماً»، وقد أخذ بياجي نظريته هذه من علم نفس الطفل، وهو عالم نفس، كما قد ذكرنا من قبل، حيث قاس نظريته في المعرفة على علم نفس الطفل وكيفية نمو المفاهيم العقلية لديه.
وسيثار استغراب القارئ، لو قلنا إن ما سبق استعراضه، هو أهم وأمتع ما جاء في الكتاب، مما يفهمه كل قارئ مثقف، باختلاف المستويات العلمية، بعكس بقية الكتاب المنقسم إلى قسمين، الأول يتعلق بتطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، والقسم الثاني المختص بتطور الفكر العلمي التجريبي، وأكثر اهتمامه بالعلوم الفيزيائية.
الرياضيات
وفي ما يتعلق بتطور الفكر الرياضي، كانت الرياضيات عملية، حتى أدخلها اليونانيون في الجانب الميتافيزيقي والمنطقي التجريدي، وجعلوها نظرية بشكل كبير جداً، أما العرب، فكان اهتمامهم بالرياضيات عملياً ومنطقياً، وأبرز أعمالهم فيه اكتشاف علم الجبر، ولم يتأثروا بمنهج اليونانيين الميتافيزيقي، إلا الفرق الباطنية كجماعة إخوان الصفا التي تأثرت بالأفلاطونية-الفيثاغورثية.
الجبر والرموز
المقصود بالثورة الأكسيومية، هي ثورة الرموز، حيث بدأت القصة مع العرب عندما اكتشفوا علم الجبر، ولكنهم مارسوه بالكلام، وليس بالرموز، حتى أتى فرانسوا فييت، الذي أدخل الحروف الهجائية كرموز للكميات، وأتى بعده الفيلسوف الرياضي ديكارت وزاوج بين الهندسة والجبر، وأدخل الرموز الجبرية وأسس «الهندسة التحليلية».
ومن ثم جاءت الثورة الأكسيومية، بشكلها الحديث، حيث أصبحت للرياضيات، كالنحو للعربية، واهتمت بصياغة القوانين الرياضية بالرموز، وهو ما جعلها عملية أكثر وأعطاها فائدة عظيمة لا يزال الفيزيائيون والإلكترونيون يستفيدون منها إلى اليوم، ثم استعرض الجابري مسألة المزاوجة بين المنطق والرياضيات في شكلها الحديث المبني على الرموز، وهي المزاوجة التي حاول إبرامها الفيلسوف الرياضي الشهير برتراند راسل في كتابه «أصول الرياضيات»، وردَّ عليه فلاسفة العلم، رافضين هذه الفكرة، قائلين إن المنطق في أصوله يتعارض مع الكثير من أصول الرياضيات.
العلم الحديث
وما إن ينتهي القسم الخاص بالرياضيات، وما حولها من أفكار، حتى تعود المتعة لأرجاء الكتاب، ويعاود القارئ يقرأ بنهم، ويمر على غاليليو، الذي اعتبره الجابري الأب الحقيقي للفكر العلمي الحديث القائم على التجربة، والذي أحدث قطيعة مع المناهج القديمة في العلم وفلسفته، حيث مع غاليليو بدأنا نعرف المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والفرضية والتجربة، ثم القانون، وكانت إحدى أبرز تجاربه، هي تجربه سقوط الأجسام، التي قال بها إن جميع الأجسام تسقط في الفراغ بنفس السرعة، مهما كان وزنها وطبيعتها، وقال إن سبب اختلاف سرعة سقوط الأجسام ليس الوزن أو الثقل، بل الوسط، وقد قام بإجراء تجربته على «الزئبق»، لأنه لم يمتلك الأدوات التي تمكّنه من إجرائها في الفراغ الخالي من الهواء، ومن ثم قام بصياغة قانونه على أساس تلك التجربة.
جدير بالذكر أن وكالة ناسا استطاعت، أخيراً، أن تصنع غرفة خالية من الهواء تماماً، عبارة عن فراغ، بفضل التقدم التقني، وأجرت تجربة غاليليو هذه وثبت بالتجربة أن سقوط كرة بولينغ يساوي بالسرعة سرعة سقوط ريشة في الفراغ، كما هي نظرية غاليليو بالضبط.
وجاء بعد غاليليو علماء آخرون، كتورشيلي وباسكال، وساروا على ذات النهج التجريبي، القائم على: الملاحظة، الفرضية، التجربة، ثم القانون.
وعاد الجابري مرة أخرى إلى ديكارت، وضمَّه إلى نيوتن، كفيزيائيين تجريبيين، ولكنهما ميتافيزيقيان بالوقت ذاته، ولكن الخلاف الوحيد بينهما، برأي الجابري، أن ديكارت كان ينطلق من نظرة ميتافيزيقية ويطوّع التجربة لمنهجه هذا، بعكس نيوتن، الذي كان يبني نظرته الميتافيزيقية على ما وصل إليه من تجارب.
الفيزياء الحديثة
وختم الجابري تلك المباحث، بالوصول إلى الفيزياء الحديثة (النسبية والكم)، والتي جاءت لتحلّ محل الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء غاليليو ونيوتن الميكانيكية)، حيث هزّت النظرية النسبية، وفيزياء الكوانتا، الأفكار العلمية بشكل كبير جداً، وأثرتا في الأوساط الفلسفية أيضاً، حيث أثبتت النظريات الفيزيائية الحديثة أن الفرضيات الفيزيائية الكلاسيكية لا تنطبق إلا على المستوى الماكروسكوبي، وهو مستوى الحياة العادية التي ألفناها كبشر.. أما مستوى العالم الأكبر، وهو عالم الفضاء والسرعات الكبيرة، كسرعة الضوء وما يصل مقارباً لها، ومستوى العالم الأصغر وهو مستوى الإلكترونات وغيرها، فلا تنطبق فيها النظريات الفيزيائية الكلاسيكية.
خاتمة وملاحظة
ختم الجابري كتابه بسلسلة من المقالات العلمية المترجمة عن كبار العلماء الفيزيائيين، كما ختم القسم الأول (الرياضيات) بنصوص مترجمة عن كبار علماء الرياضيات، أيضاً، وختم تلك نصوص جميعها بنص لباشلار عن «العقلانية الجديدة والفلسفة المفتوحة»، وهي ما تعد برأينا إشارة من الجابري إلى آخر ما وصل إليه العلم من فتوحات، وهو «الفلسفة المفتوحة»، كما أكدنا ذلك في مقدمة هذه المقالة.
ولابد من ذكر ملاحظة مهمة، أننا أعرضنا عن الكثير من أفكار الكتاب، طرداً للملل، وطلباً للاختصار، فهذه المقالة غير ملمة بأفكار الكتاب، قطعاً، ولكنها لمحة عنه، وإلا، فالكتاب قد احتوى جزءاً كبيراً من أفكار المدارس المعرفية المختلفة ومدى علاقتها بالاكتشافات العلمية، كما احتوى جزءاً كبيراً من أثر تلك الاكتشافات في فلسفة العلوم وتقدمها.
والملاحظ أن الجابري لم يستطع أن يبسّط تلك الأفكار، كما بسّطها غيره ممن تكلم عن تاريخ العلم في الغرب بطريقة أدبية سلسلة، ولا نبالغ إن قلنا إن هذا من أكثر كتب الجابري سآمة، بعكس كتبه الأخرى، التي كتبها بعد هذا الكتاب، وهي كتب ممتعة وسلسة في ترتيبها وطريقة عرضها، وهو ما ميَّز الجابري عن غيره من المفكرين العرب، الذين تناولوا ما تناوله هو من موضوعات دسمة.