أحمد النفيسي: “الطليعة”.. صوت لن يغيب

أحمد النفيسي مع الراحل سامي المنيس
أحمد النفيسي مع الراحل سامي المنيس

بقلم: أحمد النفيسي

أكتب هذا المقال ولا أعرف إلى أين سيقودني، فلحظة توقف “الطليعة” عن الصدور، بشكل نهائي، هو حدث تاريخي مهيب في مسيرة الحركة الوطنية في الكويت، فهي الشعلة الأخيرة التي حملتها وظلت متقدة منذ لحظة إثمار النضال الوطني الديمقراطي، الذي امتد منذ ثلاثينات القرن الماضي، وتبلور في دستور عام 1962.

هي آخر ومضات عهد عبدالله السالم، وهي مهمة بالنسبة لي شخصياً، فقد أعطيتها أزهى سنوات عمري، بكل ما فيها من جهد وقلق ومعاناة، ونلت منها كل ما منحتني إياه من رضا الانسجام مع النفس وتحقيق الذات.

تعرفت على “الطليعة” عام 1963 بعد صدورها بعام، كنت قد قطعت دراستي في الولايات المتحدة باختياري، وعدت إلى الكويت وقراري أن أكمل دراستي قريباً في الوطن، وكان بي شوق لكي أجد الوسيلة، التي أسهم بها في العمل الوطني.

اهتديت إلى “الطليعة”، فجئتها مندفعاً أريد أن أساهم بها بأي صورة. كانت لدي قدرات في الكتابة ورسم الكاريكايتر، ونشرت مرة في جريد الشعب عام 1957 أثناء دراستي الثانوية، ونشرت لي أيضاً مجلة صباح الخير بعضاً من رسوماتي.

أتذكر أني لم أتردد على مكتب “الطليعة” في شارع الجهراء، الذي أسموه شارع «فهد السالم»، لكني دُعيت – وأعتقد من قبل الأخ فيصل الفليج – لحضور اجتماع أسرة تحرير الطليعة الأسبوعي، الذي يُعقد في ديوان والده المرحوم سعود الفيلج، الذي يقع في الفيحاء على الدائري الثاني مقابل أرض فضاء أصبحت فيما بعد ضاحية عبدالله السالم.

كان لقاء مثيراً بالنسبة لي، فقد كنت شاباً صغيراً بالنسبة للموجودين، ولأول مرة أحضر اجتماعاً عالي المستوى تُناقش فيه أمور البلد. أتذكر أن من بين الحضور كان الدكتور أحمد الخطيب، وعبدالرزاق الخالد، صاحب امتياز “الطليعة” ورئيس تحريرها، وسامي المنيس، وكانوا كلهم نواباً في أول مجلس، وكان الحضور يضم أيضاً جاسم خالد المرزوق، وفيصل الفليج، إضافة إلى مدير تحرير “الطليعة” غسان شرارة، ومحمد خالد الشقيق الأكبر لليلى خالد، الفدائية الفلسطينية المعروفة فيما بعد.

كان محمد خالد يساهم في تحرير “الطليعة”، وهو موظف حكومي، وكان ذا قلم رشيق لاذع وثقافة، وله عمود شهير وقتها في الصفحة الأخيرة بعنوان «يا أمة ضحكت».
شعرت براحة عميقة في داخلي، فقد وجدت الموقع الذي أجد نفسي فيه، ووجدت المياه التي أرتاح للعوم فيها، ومنذ تلك اللحظة بدأت مسيرتي مع “الطليعة”.

كان أول ما قمت به أنني رافقت بعد أيام فيصل وجاسم إلى مطبعة المقهوي في شارع السور، لمتابعة شؤون طباعة عدد “الطليعة” والاطلاع على «بروفاته»، وانغمست بعد ذلك في المساهمة بالعمل في “الطليعة”، وتكرر ذلك كل صيف. ولكنك لو تصفحت “الطليعة” في الستينات لن تجد اسمي فيها، بل ستجد بعض رسوم الكاريكاتير، فلقد تعودنا أنا وغيري من الإخوة ألا نضع أسماءنا على ما نكتب، وكنا ننشر المقالات بأسماء مستعارة، بعض منا حماية لمصدر رزقه، والبعض الآخر تفادياً للإحراج، والكثير إنكاراً للذات.

ربما هناك مقال وحيد نُشر باسمي عام 1965 نُقل من العدد الأول لمجلة اتحاد طلبة الكويت في القاهرة «الاتحاد»، وكنت قد أشرفت على تأسيس المجلة بدعوة من اللجنة التنفيذية، وكان المقال حول القوانين الثلاثة الجائرة، التي استقالت بسببها المعارضة من مجلس الأمة. كذلك ستجد اسمي على رسوم الكاريكاتير القليلة، التي تسبب أحدها بإغلاق “الطليعة” لمدة عام.

ظروف صعبة

أكملت دراستي في بيروت مطلع عام 1968، وعدت إلى الكويت بشكل نهائي، وكانت “الطليعة” متوقفة بسبب تزوير الانتخابات عام 1967.
عدنا للصدور عام 1970 بعد بيان جابر الأحمد الشهير، الذي صدر في يونيو ويدعو فيه إلى نسيان الماضي، والعودة إلى التعاون، واعداً بانتخابات نزيهة.
كان مدير تحرير الطليعة غسان شرارة ومحمد خالد قد تم تسفيرهما ضمن عملية التسفير الكبرى، التي طالت كل الناشطين من القوميين العرب في بداية تشديد قبضة السلطة التي بلغت ذروتها بتزوير الانتخابات.

دخلنا عقد السبعينات ونحن نواجه ظروفاً ذاتية صعبة. كانت حركة القوميين العرب في الكويت قد انشقت عام 1967 احتجاجاً على ما اعتبره بعض الشباب “ميوعة في مواجهة تزوير الانتخابات”، ثم عادت فانشقت بعد هزيمة عام 1967 إثر التحولات الفكرية التي أحدثتها الهزيمة في فكر القيادة العليا للحركة، فانفصلت عنها مجموعة لها ثقل بقيادة جاسم القطامي، فتصارع التياران في انتخابات نادي الاستقلال عام 1970 وفاز فيها تيارنا، ودخلت أنا عضوية مجلس إدارة النادي.

ثم خضنا انتخابات عام 1971، وسط مقاطعة جماعة جاسم القطامي والتجار، ففزنا فيها بأربعة أعضاء هم د.أحمد الخطيب، وسامي المنيس، وعبدالله النيباري، وكاتب هذه السطور.

وديعة سامي

أما “الطليعة”، فقد كانت بالحفظ والصون ومن نصيبنا، حيث كانت وديعة لدى سامي المنيس، الذي نُقلت إليه من سليمان الحداد بعد عبدالرزاق الخالد، ولهذا عندما عاودت الصدور لم تكن تحظى بدعم التجار بإعاناتهم، ولا بإعلاناتهم، إلا القليل الصامد، كما لم تكن تحظى بمساهمة ومساندة إخواننا من جماعة جاسم، ما جعل العبء علينا مضاعفاً.

في مقابل ذلك، وفّر لنا وجودنا في مجلس الأمة فرصة أكبر لنكون في قلب الأحداث وإثراء الطليعة بالمادة الصحفية.
في تلك الفترة حصلت مجموعة “القبس” على امتياز، وتقدمت بطلب أرض لتبنى عليها مطابعها ومكاتبها، فقامت البلدية التي تتبع وزير الدول لشؤون مجلس الوزراء بتنظيم ما أصبح يدعى شارع الصحافة، وقررت أن تخصص القسائم المطلة عليه للصحف اليومية، أما الأسبوعيات، فقد كان نصيبها الصفوف الخلفية، ولقد اطلعت على هذا من خلال ترددي على البلدية وعلاقاتي، فغاظني ذلك، وأخبرت سامي المنيس، وقلت له “هذا لا يجوز وسأكلم الوزير ولن نسكت”.

وبالفعل، واجهت الأستاذ عبدالعزيز حسين في استراحة المجلس، وقلت له “لماذا نُعطى قسائم في الخلف؟”، فأخذ يشرح لي المبررات المعروفة مما أزعجني، وقلت له “كيف يحدث هذا يا أبو هاني؟، “القبس” التي ولدت بالأمس تعطى قسيمة كبيرة على الواجهة الأمامية، و”الطليعة” التي لديها كل هذا الامتداد التاريخي منذ الخمسينات تُعطى قسيمة صغيرة في الصفوف الخلفية؟ هل أصحبنا أولاد عبدة؟”!!.

وقلت “إننا لن نقبل إلا أن نكون في الصف الأمامي مثل غيرنا، وإنني لا أتحدث إليك باسمي وحدي”.

وأتذكر أن أبا هاني امتعض من حديثي، ورأيت ذلك على وجهه، وقد ندمت أنا أيضاً على ذلك، فهذا الأستاذ الجليل يستحق كل الاحترام، لكنها كانت ثورة وربما حمق الشباب!! ولقد أثّرت هذه الواقعة في علاقتي الشخصية به، ولكن كان شعوري بالظلم حقيقياً.

بناء “الطليعة”

هكذا ولد شارع الصحافة كما نعرفه اليوم، ومُنحت “الطليعة” قسيمتها المميزة هذه، ومعها كل الصحف الأسبوعية.
ومع القسيمة، جاءت هموم توفير الأموال للبناء والمطابع، خصوصاً أن القرض الحكومي المخصص كان لا يكفي.
صادف ذلك الوقت أن قررت الحكومة تأميم وتكويت البنك البريطاني للشرق الأوسط، وهو المصرف الأجنبي الوحيد في الكويت، وآخر ما تبقى من المؤسسات البريطانية التي نشأت أثناء الحماية البريطانية قبل الاستقلال، فعزمت على أن نجرب الاستفادة من الاكتتاب لدعم ميزانية “الطليعة”.

كان الدارج أن الاكتتابات تقتصر على من يرغب من التجار وأعدادهم كانت قليلة نسبياً، وكانوا يكتتبون بأسمائهم وأسرهم، لكن بالآلاف وعشرات الآلاف من الأسهم، مستخدمين أموالهم إن توفرت، أو بقروض من البنوك، وكانوا في النهاية يحصلون على كميات معقولة من الأسهم. وعادة ما تحقق البنوك أرباحاً مجزية من وراء ذلك دون مخاطرة، ففاتحت شقيقي الذي كان عضواً في مجلس إدارة أحد البنوك برغبتي، فقال لي “لماذا تكلفون أنفسكم أعباء فوائد البنوك ولن تجنوا إلا النزر اليسير، في حين أن جماعتكم كثيرون؟، اجمعوا أكبر عدد من الأسماء واكتتبوا بها بالحد الأدنى المخصص للمكتتب، وستحصلون على ما تريدون دون تحمل أي فوائد”.

أعجبتني الفكرة، فذهبت أشرحها للجماعة، وبالفعل باشرنا بجمع أكبر قدر مما نستطيع جمعه في الفترة المحددة، حتى حصلنا على المئات من أسماء أعضاء نادي الاستقلال وأسرهم وأسماء أعضاء في نادي القادسية، ومعارف كثيرين، وتكونت لدينا حصيلة كبيرة اكتتبنا بها وجنينا من ورائها أكثر من ثلاثين ألف دينار، وهو مبلغ ضخم آنذاك يعادل ما يخصص من قروض بنك التسليف والادخار للمواطنين لبناء مساكنهم، وقد أعاننا هذا المبلغ على بناء “الطليعة” ومطابعها.

كانت طريقة اكتتابنا هذه تحدث للمرة الأولى في الكويت، قررنا فيما بعد الاكتتاب في شركات أخرى لرفد “الطليعة” مالياً، لكن الناس بدأت وبسرعة تعي حقوقها في الاكتتابات، وتضاءل عدد المشاركين ونشأت إثر ذلك تجارة جديدة، هي تجارة شراء حق الآخرين في الاكتتاب، وأصبحت الاكتتابات الشعبية ظاهرة.. وهي الظاهرة التي ابتدأت من “الطليعة”.

تحرير “الطليعة”

كان هذا الجانب الخاص بتوفير الأموال من أجل دعم “الطليعة” وهي تواجه ظروفها الجديدة، أما بالنسبة لتحريرها فقد وفقنا بانضمام محمد نصر إلينا كمدير للتحرير.
كان محمد نصر صحفياً محترفاً مصقول المواهب، وكان معنا أيضاً ناجي العلي كرسام للكاريكاتير ومخرج، وناجي هو نسيب محمد نصر، وقد جاءنا من بيروت، حيث أرسله لنا غسان كنفاني أواسط الستينات، متوسماً فيه التألق والإبداع. وكان ناجي، وهو عضو في حركة القوميين العرب، قد التصق بـ”الطليعة”، التي أحبها وأحبته رغم انقطاعها عن الصدور وتقلص الموارد، وكان يقوم بتدبير شؤونه عن طريق العمل بالقطعة مع الصحف الأسبوعية.. وذات يوم، علمت منه أن جريدة السياسة قد عرضت عليه أن يكون رسامها الرئيسي بمبلغ ضخم بالنسبة إليه، لكنه رفض فوراً لتصادم خط “السياسة” مع مبادئه، تألمت كثيراً، وقلت له “يا ناجي هذه فرصة نادرة فُتحت لك، وعلاوة على أنها توفر لك سبل العيش، فإنك ستستفيد منها كثيراً كفنان، خصوصاً أنك أخبرتني بأنهم في “السياسة” تعهدوا لك بأن لا يفرضوا عليك أمراً أبداً وسيحترمون حريتك.. وسأحدث سامي في الموضوع”.. وهكذا كان. وأخبرني ناجي وهو يبدأ عمله في “السياسة” أنه اشترط عليهم أن يعمل أيضاً في “الطليعة” عندما تعود للصدور.. وقال لي متأثراً: “لن أترك “الطليعة” أبداً”.. وهكذا خطا ناجي مشواره الرائع نحو التألق والشهرة.

عاودنا الصدور، وانضم إلينا الأخ نايف الأزيمع الذي كان إضافة ثمينة، فقد كان مفعماً بالحيوية والحماس والعطاء، وأصبح يمارس الصلاحيات الكاملة لرئاسة التحرير، وأشرف على بناء “الطليعة” وشراء مطابعها، أما الأخ سامي، فقد كان العين الساهرة الذي يراقب الجميع ويتابع علاقات “الطليعة” مع الآخرين وكذلك شؤون العاملين فيها وأمور السيطرة على الصرف.

وفي تلك الفترة، انشغلنا بمهامنا في مجلس الأمة وشؤون نادي الاستقلال، وفي ذات الوقت واصلنا مهامنا في “الطليعة”.
بالنسبة لي، كنت ملتزماً بكتابة باب حديث الدواوين، وأكتب حول ما يستجد في المجلس والساحة المحلية، فضلاً عن تأملات في باب خواطر، وأحياناً زاوية “رأي الطليعة”، وكان الأخ عبدالله النيباري يثري “الطليعة” بأفكاره، ويتناول في كتاباته موضوع النفط، حيث كان يقود معركتنا لتحرير النفط من الشركات الأجنبية، والقتال ضد اتفاقية اليماني للمشاركة النفطية. أما الدكتور أحمد الخطيب، فكان حريصاً على بلورة أفكار رأي “الطليعة” والتحليل السياسي المحلي.

غادرنا مدير التحرير محمد نصر لأن السلطة رفضت تجديد إقامته.. ثم اضطر أخونا نايف الأزيمع لترك موقعه في “الطليعة” لظروف خاصة، لكنها استمرت بجهود الشباب المخلصين، وبجهود ما توفر من محررين.

خضنا انتخابات عام 1975 ولم أفز فيها، فأصبحت “الطليعة” مهمتي الأساسية، وصرت أمارس المهام التي كان يمارسها نايف، لكن تحت مسمى نائب رئيس التحرير، وهكذا انغمست كلياً في التحرير كتابة و”هموماً”.

لم يطل أمد مجلس 75 كثيراً فحُلّ في منتصف عام 1976، وأُعيد فرض قانون الصحافة القمعي، فتوقفنا عن الصدور، ثم قاموا بحل نادي الاستقلال للإجهاز على آخر منافذ تعبيرنا مثلما يحدث اليوم، لكننا عدنا للصدور مرة أخرى مع الإعلان عن عودة الحياة النيابية عام 1980، وفشل جميع مرشحي التيار الوطني في انتخابات 1981، ما عدا خالد الوسمي، واستمرت “الطليعة” تواجه قضايا الثمانينات بصلابة، مثل قضية المناخ الأسطورية، وقيام السلطة بتسليم البلد لحزب الإخوان المسلمين، وغيرها إلى أن تم حل مجلس 1986 من جديد وتوقفنا، وفكك النظام تماسكنا الوطني فوجدها صدام – الذي استهلكت موارده في الحرب مع إيران وأفلسته- فرصة لتحقيق طموحاته الآثمة باحتلال الكويتي.

وفي 26 فبراير 1991، عادت الكويت لأهلها وطرد المحتل، ولكن “الطليعة” ظلت متوقفة عن الصدور، فهي بلا موارد ومطابعها خراب.. لكنها عادت للصدور عام 1992.

كان د. الخطيب هو أكثر المتحمسين للقرار، فاستعان بالمرحوم محمد مساعد الصالح لإنجاز ذلك، ثم استعين بالأخ أحمد الديين لتولي الإشراف على تكوين الجهاز اللازم وتولي مسؤولية التحرير. وهكذا صدرت “الطليعة” بشكلها الحالي على شكل جريدة، وأصبحت جريدة حيوية تلامس الواقع وتُعنى بشكل أساسي بالشؤون المحلية.

حالة خيبة

انتهى آنذاك الاهتمام بالشؤون العربية، التي استنزفت جهدا كبيراً من طاقتنا، وكنت بعيداً عن ذلك كله، كنت أعيش حالة عنيفة من خيبة الأمل والقرف.
كانت صدمة الاحتلال بالنسبة كبيرة جداً، وما أدهشني وأوجعني وأثار الغثيان في نفسي بدرجة لا توصف، موقف التنظيمات العربية وبالأخص الفلسطينية من احتلال الكويت. هذه التنظيمات كنت قد التقيتها وعملت معها منذ تبلورت مداركي السياسية، وتعاهدنا معاً على مساندة حرية الأوطان والشعوب، والدفاع عن حقوقها في وجه الطغيان والتسلط. هذه التنظيمات طعنتي في الظهر، وحطمت ما بنيته طوال سنوات النضج من بنيان في نفسي من قناعات ترتكز على القيم والمبادئ.

أشغلت نفسي بالعمل الجسدي والحركة كي أنسى، وتفرغت لإعادة بناء الشاليه الخاص بنا المدمر، بنفسي، فكنت أصطحب معي العمال الإيرانيين من الرميثية فجر كل يوم ونشتري فطورنا ونذهب إلى الزور وأشاهد بزوغ قرص الشمس الكبير من وراء البحر، ما إن ننتهي من تناول فطورنا حتى نبدأ بالعمل حتى ما قبيل الغروب، كان ذلك علاجا لي، عدت بعده إلى الحياة شبه الطبيعية، لكن ما جعلني أعود لأنغمس في العمل بـ”الطليعة” من جديد، هو مغادرة الأخ أحمد الديين لظروف خاصة عام 1994، وشغور موقع المحرك الرئيسي لتحرير “الطليعة” فتوليت أنا ذلك.

كنت في السبعينات قد اتفقت مع الأخ سامي على أن أتولى شؤون رئاسة التحرير كلها ما عدا ما يتعلق بالأمور المالية والادارية، لكني الآن أصبحت رئيساً للتحرير بدل الأخ سامي، الذي احتفظ بموقع رئيس مجلس الإدارة، فأصبحت المسؤولية كلها على عاتقي.

قضايا التسعينات

بعد تحرير الكويت وعودتها إلى أهلها، تركز اهتمام الناس و”الطليعة” على محاسبة المتسببين بكل ما حل بنا من احتلال وخراب، لكن سرعان ما دفن الموضوع بعد الضخ المادي ومماطلة السلطة، وسجلت القضية ضد مجهول، لكن أبرز قضايا الفساد التي واجهناها في “الطليعة” هي قضيتا “الناقلات” و”سانتافي”، إلى جانب أكبر عملية سرقة تمت في تاريخ الكويت، وهي سرقة استثمارات احتياطي الكويت، كلها تمت قبل الاحتلال وأثناءه.

وتكشفت أيضاً قضايا تزويد الجيش الأميركي بالغذاء والمؤن، وكانت قضية هاليبرتون هي القضية التي تواطأ فيها لصوص الكويت مع لصوص الجيش الأميركي لتزويد الجيش الأمريكي في العراق بالنفط الكويتي.

لكن القضية التي فجرناها في “الطليعة”، وكتبت فيها موضوعاً أصبحت مانشيتاته مثلاً ساخراً يتندر به الناس هو موضوع تزويد الجيش الأميركي بالغذاء على حساب الكويت، وكان المانشيت الرئيسي «رأس الخس بـ 8 دنانير وحبة اللوبستر بـ 14 ديناراً».

ولقد طويت ملفات كثيرة في الكويت من سرقات الاستثمارات، وحفظت القضايا.

قضية واحدة حوكم أبطالها في الخارج، وحكم عليهم باسترداد الأموال، ولوحقوا للقبض عليهم، لكنهم هربوا بأموالهم إلى بلدان تكفل عدم تسليمهم ولم تسترد إلا بعض الأموال، لكني تابعت شخصياً قضيتين رئيسيتين، هما قضية الناقلات وقضية سرقات قصر بيان.

الناقلات

كانت جريدة القبس قد كشفت النقاب عن هذه السرقة الكبرى، فالتقطناها نحن وتابعناها بشكل حثيث للكشف عن تفاصيلها بما لا يترك مجالاً لأحد كي يلتف عليها أو “يدمدمها”، واستهلك ذلك كثيراً من جهدي ووقتي.

كنت على اتصال مستمر بمصادرنا في شركة ناقلات النفط، وكان الأخ عبدالله الرومي مدير عام الناقلات السابق، خير عون لنا، وكنت أيضاً على اتصال بمصادرنا القضائية التي لا أستطيع الكشف عنها الآن، وعرفت كيف أن ثلة من الشباب القضاة، الذين عينتهم النيابة لمتابعة القضية في الداخل والخارج، كافحوا ببطولة رغم المخاطر والمعوقات والإحباط في مواجهة قوى مؤثرة كي يجمعوا الأدلة داخل الكويت وخارجها.

ولقد حوكم لصوص الناقلات، واستردت بعض الأموال، وأدخل أحدهم السجن، وهرب آخرون بأموالهم، أما المتهم الرئيسي الكبير فلقد ظلت قضيته تلوكها محكمة الوزراء وتخلي ما يقارب من ثمانية قضاة عن النظر فيها، إلى أن أتى حكم بعدم كفاية الأدلة القاطعة، على الرغم من أن وثائق الإدانة قد سلمتها السلطات السويسرية، ولا يعرف أحدا إن أنها وصلت أم حجبت عن المحكمة.

الفساد في قصر بيان

لم يبق مجال لم تنله السرقة في إعادة إعمار قصر بيان من المقاولات الرئيسية إلى مقاولي الباطن، من المبنى الرئيسيى إلى المسجد، ومن تأثيث القصر والفلل إلى “الشوك والسكاكين”.

كان المستفيدون كثر، ولكن كبير مهندسي وزارة الأشغال الذي يدير المشاريع الخاصة هو الذي كان يدير كل شيء.

استفز هذا الوضع د.عبدالعزيز سلطان، رئيس مكتب المهندس الكويتي، ولفت نظرنا إليه، ففجرنا الموضوع في “الطليعة”، وامتد الأمر إلى مشاريع أخرى، مثل مستشفى الطب النفسي، إلا أن فساد بيان كان فاقعا، وهو ما جعل الدكتور السلطان يرفع قضية أمام القضاء ويكسبها بحكم الاستئناف، وأودع كبير المهندسين السجن، ولقد تابعت هذا الموضوع بنفسي، وأعتقد أن دورنا كان مؤثرا للوصول إلى هذه النتائج.

هذا الصوت لن يغيب

على مدى أكثر من أربعين عاماً انخرطت في العمل بـ”الطليعة”، وكتبت شتى أنواع المقالات والأبواب، معظهما بأسماء مستعارة، مثل بوبدر وبدر البدر، وغيرهما الكثير، وأوصاف مختلفة، مثل المحرر السياسي، ومحرر الشؤون المحلية، ومحرر الشؤون العربية، أو المحرر الدبلوماسي.. أو بدون اسم، وكنت أتوخى البحث والاستقصاء فيما أكتب، حفاظاً على مصداقية “الطليعة”، ومرت علي ظروف صعبة، خصوصاً بعد التحرير، إلى درجة أنني بقيت لفترة أكتب بين أربعة إلى ستة موضوعات في العدد الواحد، مثل الموضوع الرئيسي، الذي يحمل رأي الطليعة، وموضوع محلي، مثل شؤون البلدية والمجلس، وكتابة عامود “سلة الطليعة”، وكتابة موضوع خفيف للصفحة الأخيرة، وتوقفت نهائياً عن ممارسة مسؤوليات الطليعة عام 2006 بعد انتخابات مجلس الأمة، وأنهكني التعب الذي ساهم في مشاكلي الصحية، ولكني فخور بذلك فيما تبقى لي من حياة.

فلقد زاملت إخوان أعزاء كانوا خير رفاق، سأحاول تسمية بعضهم، وأرجو المعذرة لمن فاتني ذكره، لأنني لم أستطع أن أسميهم، وكنت مع د.أحمد الخطيب، والراحل سامي المنيس، وعبدالله النيباري، وهؤلاء كبار بالنسبة لي، تعلمت منهم الكثير، فعطاؤهم لـ”الطليعة” لا يخفى على أحد، ولكني لن أنسى من رافقنا خلال المسيرة الطويلة، مثل الأخ عبد الله البعيجاني (شافاه الله)، الذي تحمل متابعة استكمال مبنى ومطابع “الطليعة”، وإدارتها لفترة طويلة من الزمن.

ولن أنسى الراحل عبد الله السبيعي بصفائه الوطني، ولا أحمد الديين الذي عاد لـ”الطليعة” مرة أخرى عام 1997 عندما دخلت المستشفى على إثر أزمة صحية أبعدتني عدة أشهر، في الوقت الذي أصيب فيه أخي النيباري في محاولة اغتياله المشؤومة، كما لن أنسى بالطبع إخوتي محمد الغربللي، ومحمد العجيري، حين تحملا القسط الأكبر من المسؤولية لإصدار “الطليعة” بعد أن تقلص المساهمون وكذلك الأخوة زايد الزيد وسعود العنزي اللذان تحملا إدارة التحرير في جزء من التسعينات من مطلع هذا القرن، وبالطبع أيضا “حبيبي” نشمي المهنا (وضاح) الذي أشرق من الطليعة وظل ألقا في سماء الكويت.

ولا بد أن أذكر في هذا المجال أخونا البار عبدالعزيز سعود (رحمه الله) بمحبته وسخاء عطائه. وكذلك عوني صادق مدير التحرير في الثمانينات، وماجد الشيخ ابن “الطليعة”، ومحمد الأسعد الأديب المثقف الذي تولى إدارة التحرير أيضاً.

شباب “الطليعة”

لقد مر علي مئات من الشباب والطلبة، الذين كانوا يحملون قضاياهم، وساهموا في العمل في “الطليعة”، وكانوا خير جنودها، قبل أن تتشعب بهم طرق الحياة، كما تعلم كثيرون في “الطليعة”، بعضهم أكمل الطريق، وبعضهم انزوى، وبعضهم الآخر انقلب واتخذ موقفاً معادياً لما تمثله “الطليعة”.

إلا أنني، وأنا أتأمل المشهد، و”الطليعة” بأرضها ومبناها وامتيازها، وهي تعرض – يا للسخرية – في المزاد، وأتفحص ما حولي، أجد العديد وربما العشرات من المجموعات الشبابية، التي تفتحت وأينعت لتدافع عن الحريات والدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان والمال العام، ومجموعات أخرى ثقافية لو دققت فيها كلها لوجدت جذورها تنبثق من “الطليعة”، وهذا كله لن يستطيع أحد أن يبيعه بمزاد.

Print Friendly, PDF & Email

3 تعليقات

  1. هذا تاريخ من النضال من اجل تحقيق العدل و اعلاء شأن الوطن و الامة و استيفاء حقوق الناس … لا يمكن ان يُنسى او يُزايد عليه . لكن المعضلة ليست هي فقط في توقف ” الطليعة ” عن الصدور نهائياً كما يظهر من المشهد ، لأن هذه ازمة مرحلية ؛ حيث كان لكل توقف سبق صفة النهائي ، اذ كان يوحي بأنها فرصة لمن أُغِر صدره على اصحابها … ان يجهز عليها . و لكن في آخر المطاف ينجِّيها الله تعالى بسبب تطلبها للحق و انصاف المظلوم فرداً كان او جماعةً … او امةً و بلداً.
    لذلك من المستبعد ان تشكل صورة الوضع الحالي ل” الطليعة ” صيغة النهاية الابدية لهذا النبراس الاعلامي ؛ لكن ، و من باب النقد الذاتي ، لابد من مراجعة اصحابها لمسيرتها التي هي في الحقيقة مسيرتهم النضالية . و يُخص بالنقد ، هنا ، النظرة الذاتية الاحادية التي في احايين كثيرة تعزل الجريدة عن واقعها ؛ فعلى الساحة قوىً وطنية اخرى يجب التعاون معها الى ابعد الحدود و إن بدت منها هنّات تجاه الطليعيين ؛ ذلك ان مبتنى العمل المبدئي هو المبدأ لا المقابلة بالمثل . فلو لاحظت ” الطليعة ” هذا ، لاستعادت عافيتها كما مضى او افضل !

  2. حفاظاً على النهج الوطني الذي للتزمت عبئه ” الطليعة ” ؛ فلِمَ لا تحاول المجموعة المتمولة في وسط دائرة المناصرين لها ، و هم كُثُر كرموز شخصية … ان تشتري حق الامتياز ممن وجد تلك الثغرة القانونية و التي ما كانت لتوجد لولا حسن النوايا … و حاول ان يستثمرها مالاً سُحتاً ؟ !
    فصون مظآن المبادئ بالمال اهم من صون المال في ظل المبادئ خاصةً في ظل ظروف تتحقق بموجبها الضرورة ! و ليس بمستغرب ،، و لا تأخذنا الدهشة كل مأخذ ان يكون وريث اصحاب المبادئ ، و ان سار وفقها شيئاً من الزمن ، ان ينقلب عليها . فها هو التاريخ القريب المتناول يخبرنا كيف ان صاحب المبدأ ، نفسه ، قد يخون اصحابه … الى درجة يساعد اعدائه و اعدائهم على تصفيتهم جسدياً كما صنع عزيز الحاج رمز الشيوعية العراقية بأصحابه ، و ذلك حين طالتهم يد البعثيين بالاعتقال ايام سطوة و دولة البعث في العراق !
    فالمبدأ شئ ، و الاشخاص شئٌ آخخر ؛ المبادئ لاتتغيير ، لكن الشخوص تتأثر بالظروف و هنا ، يظهر التفاضل بين قوي الشكيمة بالمبدأ ، و الضعيف الواهي الذي يضطرب اصراره على مبدئه لاقل حالكة من الظروف .

  3. سرد تاريخي ممتع و “ممتليء بالأسي” في ذات الوقت، لنضالات الشوامخ، الذين يصبحون سنديان هذا الوطن، ولنضالات هذا المنبر الإعلامي السامي، والذي أسعدتني الظروف ان اكون أحد كتّابه في الثمانينات في الوقت الذي توليت فيه مهمة “التصحيح”. كنت في ذلك الوقت أعمل أيضاً في جريدة الوطن. للزملاء الأعزاء خالص الوُّد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.